سورة ( الزخرف ) مكية ، نزلت بعد سورة ( الشورى ) ، وقد نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وقد سميت بسورة الزخرف لقوله تعالى فيها : { وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } . ( الزخرف : 35 ) .
تعرض هذه السورة جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ، ومن جدال واعتراضات ، وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس ، وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلة الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كل زمان ومكان .
معظم مقصود سورة ( الزخرف ) هو : بيان إثبات القرآن في اللوح المحفوظ ، وإثبات الحجة والبرهان على وجود الصانع ، والرد على عباد الأصنام الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والمنة على الخليل إبراهيم بإبقاء كلمة التوحيد في عقبه ، وبيان قسمة الأرزاق ، والإخبار عن حسرة الكفار وندامتهم يوم القيامة ، ومناظرة فرعون وموسى ، ومجادلة عبد الله بن الزبعري للمؤمنين بحديث عيسى ، وادعاؤه أن الملائكة أحق بالعبادة من عيسى ، ثم بيان شرف الموحدين في القيامة ، وعجز الكفار في جهنم ، وإثبات ألوهية الحق سبحانه في السماء والأرض ، وأمر الرسول بالإعراض عن مكافأة الكفار1 ، في قوله تعالى : { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } . ( الزخرف : 89 ) .
إذا تأملنا سورة ( الزخرف ) وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :
يشمل الفصل الأول الآيات من ( 1-25 ) . ويبدأ بالتنويه بشأن القرآن والوحي ، وبيان أن من سنة الله إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم ، ولكن البشرية قابلت الرسل بالاستهزاء والسخرية ، فأهلك الله المكذبين .
والعجيب أن كفار مكة كانوا يعترفون بوجود الله ، ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية ، من توحيد الله وإخلاص التوجه إليه ، فكانوا يجعلون له شركاء يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام .
وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ، ورد النفوس إلى الفطرة ، وإلى الحقائق الأولى ، فالأنعام من خلق الله ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعا ، وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها ، لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله ، بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع ، ثم هم ينحرفون عن هذه الحقيقة ، ويتبعون خرافات وأساطير : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } . ( الزخرف : 9 ) .
وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إن الملائكة بنات الله ، ومع أنهم يكرهون مولد البنات لهم ، فإنهم كانوا يختارون لله البنات ، ويعبدونهم من دونه ، ويقولون : إننا نعبدهم بمشيئة الله ، ولو شاء ما عبدناهم ! ! وكانت مجرد أسطورة ناشئة عن انحراف العقيدة .
وفي هذه السورة يناقشهم بمنطقهم هم ، ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح ، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ( 15 ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ( 16 ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( 17 ) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( 18 ) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( 19 ) } ( الزخرف : 15-19 ) .
ثم يكشف القرآن عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة ، وهو المحاكاة والتقليد ، وهي صورة زرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث يساق بدون تفكير .
ثم يبين القرآن أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة ، وحجتهم مكرورة بدون تدبر لما يلقى إليهم ولو كان أهدى وأجدى ، ومن ثم لا تكون عاقبتهم إلا التدمير والتنكيل ، انتقاما منهم وعقابا لهم : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ( 23 ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 24 ) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 25 ) } . ( الزخرف : 23-25 ) .
تشتمل الآيات من ( 26-56 ) على القسم الثاني من السورة ، وهو استمرار لمناقشة قريش في دعواها ، فقد كانت قريش تقول إنها من ذرية إبراهيم -وهذا حق- وإنها على ملة إبراهيم -وهذا ادعاء باطل- فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض ، ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد أن تعرض للقتل والتحريق ، وعلى التوحيد قامت شريعة إبراهيم ، ثم أوصى بها ذريته وعقبه ، فلم يكن للشرك فيها أي خيط رفيع .
وفي هذا القسم من السورة يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية ، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعون ، ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم : { لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . ( الزخرف : 31 ) . ويناقش قولتهم هذه ، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصيلة التي أقام الله عليها الحياة ، والقيم الزائفة التي تتراءى لهم ، وتصدهم عن الحق والهدى ، وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضية يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله ، بعد أن يطلعهم على علة هذا العمى ، وهو من وسوسة الشيطان .
ويلتفت في نهاية هذا الدرس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسليه ويواسيه عن إعراضهم وعماهم ، فما هو بهادي العمي أو مسمع الصم وسيلقون جزاءهم ، سواء شهد انتقام الله منهم ، أو أخره الله عنهم ، ويوجهه إلى الاستمساك بما أوحى إليه فإنه الحق الذي جاء به الرسل أجمعون ، فكلهم جاءوا بكلمة التوحيد .
ثم يعرض من قصة موسى عليه السلام حلقة تمثل هذا الواقع من العرب مع رسولهم ، وكأنما هي نسخة مكررة تحوي ذات الاعتراضات التي يعترضون بها ، وتحكي اعتزاز فرعون وملئه بذات القيم التي يعتز بها المشركون : المال ، الملك ، الجاه ، السلطان ، مظاهر البذخ ، وقد بين القرآن فيما سبق أنها لا تزن عند الله جناح بعوضة ، ولو شاء الله لأعطى هذه الأموال للكافر في الدنيا لهوانها على الله من جهة ، ولأن هذا الكافر لا حظَّ له في نعيم الآخرة من جهة أخرى ، ولكن الله لم يفعل ذلك حتى لا يفتن الناس ، وهو العليم بضعفهم ، ولولا خوف الفتنة لجعل للكافر بيوتا سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب ، بيوتا ذات أبواب كثيرة ، وقصورا فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة . . رمزا لهوان هذه الفضة وهذا الذهب والزخرف والمتاع ، بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمان .
وهذا المتاع الزائل لا يتجاوز حدود الدنيا ، ولكن الله يدخر نعيم الآخرة للمتقين .
تشمل الآيات من ( 57-89 ) الدرس الأخير في سورة ( الزخرف ) ، وفيها يستطرد السياق إلى حكاية أساطير المشركين حول عبادة الملائكة ، ويحكى حادثا من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه ، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية ، لا بقصد الوصول إلى الحق ، ولكن مراء ومحالا .
فلما قيل : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة ، ثم عبدوها بذاتها ، وقيل لهم : إن كل عابد وما يعبد من دون الله في النار ، لما قيل لهم هذا ضرب بعضهم المثل بعيسى ابن مريم -وقد عبده المنحرفون من قومه- أهو في النار ؟ وكان هذا مجرد جدل ، ومجرد مراء .
ثم قالوا : إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى وهو بشر ، فنحن أهدى منهم إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله ، وكان هذا باطلا يقوم على باطل .
وبهذه المناسبة يذكر السياق طرفا من قصة عيسى ابن مريم ، يكشف حقيقته وحقيقة دعوته ، واختلاف قومه من قبله ومن بعده .
ثم يهدد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعا بمجيء الساعة بغتة ، وهنا يعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة ، يتضمن صفحة من النعيم للمتقين ، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين ، ثم بين إحاطة الله بجميع ما يصدر منهم ، وتسجيل ذلك عليهم : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } . ( الزخرف : 80 ) .
ثم تلطف القرآن في تنزيه الله عما يصفون ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر لهم أنه لو كان للرحمان ولد لكان النبي أول العابدين له ، ولكن الله منزه عن اتخاذ الولد ، فهو سبحانه له الملكية المطلقة للسماء والأرض والدنيا والآخرة .
ثم يواجههم القرآن بمنطق فطرتهم ، فهم يؤمنون بالله فكيف يصرفون عن الحق الذي تشهد به فطرتهم ، ويحيدون عن مقتضاه : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون } . ( الزخرف : 87 ) .
وفي ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ، يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم : { وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } . ( الزخرف : 88 ) .
ويجيب عليه في رعاية ، فيدعوه إلى الصفح والإعراض ، فسيلقون جزاءهم المحتوم : { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } . ( الزخرف : 89 ) .
حم : حروف للتنبيه ، أو للتحدي والإعجاز .
حروف مقطعة تنطق : حا ميم ، وهي أدوات للتنبيه كالجرس الذي يقرع فينتبه التلاميذ إلى دخول المدرسة ، أو هي حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر ، وإنما هو تنزيل من حكيم حميد ، وفي أول سورة البقرة تفصيل واف لمعاني الحروف المقطعة في فواتح السور .
سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون ، نزلت بعد الشورى . وقد افتُتحت بحرفين من حروف الهجاء " حم " وبدأت بإثبات صدق القرآن الكريم ، وأن الله تعالى أنزله بهذه اللغة العربية الشريفة . وأنه ثابت في اللوح المحفوظ ، رفيع القدر ، محكَم النظم في أعلى طبقات البلاغة . .
والسورة كباقي السور المكية تعرض جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ، ومن جدل واعتراضات ، وكيف يعالج القرآن الكريم تلك النفوس ، ويقرر أثناء علاجها حقائقه وقيَمه بدلا من الخرافات والوثنيان والقيم الجاهلية الزائفة .
وقد سميت السورة الزخرف لما فيها من المثَل الرائع بتشبيه الحياة الدنيا ذات المتاع الزائل ، والبريق الخادع ، بالزخرف اللامع الذي ينخدع به كثير من الناس { ولولا أن يكون أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } .
وتعرِض السورة بعض دلائل قدرة الله تعالى ووحدانيته الواضحة في هذا الكون الفسيح وما فيه من عجائب وآثار ، وتبيّن بحجج دامغة أن الذين عبدوا غير الله إنما كانوا جاحدين ضالّين . لقد جعلوا له البنات ولهم البنين ! ! ثم جعلوا الملائكة إناثا ، { أشَهدوا خلقهم ؟ ستُكتب شهادتهم ويُسألون } . وإذا تغلبهم الحجة يقولون : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } وهكذا تمسكون بتقليد آبائهم .
ثم يثبّت الله رسوله الكريم ويحثّه أن يستمسك بالذي أوحيَ إليه لأنه صراط مستقيم ، فالقرآن والدين والعقيدة الصافية التي وردت فيه شرف كبير للنبي ولقومه { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } .
ثم عرضت السورة إلى طرف من قصة إبراهيم ، ثم قصة موسى وعيسى باختصار . وفي عبرتها تذكّر الناس بقيام الساعة التي تأتي بغتة وهم لا يشعرون . وعند ذلك يكون كما قال تعالى : { الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } . كما وتعرض السورة إلى ما أعد للمؤمنين من نعيم وما يُغذَق عليهم مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وهم في الجنة خالدون . . وبالمقابل يأتي ما ينتظر المجرمين من العذاب المقيم .
ويخاطب الله تعالى رسوله الكريم بقوله : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } . وتختم السورة بعموم مُلك الله وبيان عظمته وجلاله ، وعجز من أشركوهم معه ، وبخطاب رقيق إلى سيد البشر عليه الصلاة والسلام { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يَعلمون } .
حم : تقرأ هكذا حاميم . افتتحت هذه السورة بهذين الحرفين من حروف الهجاء وقد تقدم ذِكر أمثالهما .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تعرض هذه السورة جانباً مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات؛ ومن جدال واعتراضات. وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس؛ وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك، ولا يزال جانب منها قائماً في النفوس في كل زمان ومكان.
كانت الوثنية الجاهلية تقول: إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد، نصيباً لله، ونصيباً لآلهتهم المدعاة. (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً. فقالوا: هذا لله -بزعمهم- وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم).. وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشئ من انحرافات العقيدة. فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب -وأنواع محرمة لحومها على الأكل: (وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم -وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه)..
وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية؛ ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى. فالأنعام من خلق الله، وهي طرف من آية الحياة، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعاً. وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها؛ لا ليجعلوا له شركاء، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله؛ بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع؛ ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة، ويتبعون خرافات وأساطير: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن: خلقهن العزيز العليم، الذي جعل لكم الأرض مهدا، وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا، كذلك تخرجون، والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون)..
وكانت الوثنية الجاهلية تقول: إن الملائكة بنات الله؛ ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم، فإنهم كانوا يختارون لله البنات! ويعبدونهم من دونه، ويقولون: إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم! وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة.
وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم؛ ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق: (وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين.. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين، وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم. أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم! ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون. أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون؟ بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون!)..
ولما قيل لهم: إنكم تعبدون أصناماً وأشجاراً وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، وقيل لهم: إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار. حرفوا الكلام الواضح البين، واتخذوا منه مادة للجدل. وقالوا: فما بال عيسى وقد عبده قومه؟ أهو في النار؟! ثم قالوا: إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله. فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس!
وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل؛ ويبرى ء عيسى- عليه السلام -مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه بريء: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون. وقالوا: أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً. بل هم قوم خصمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل...)..
وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة. وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون.
فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم، وأنها ملة التوحيد الخالص، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه، وأن الرسول [صلى الله عليه وسلم] قد جاءهم بها، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون. بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين. ولما جاءهم الحق قالوا: هذا سحر، وإنا به كافرون...)..
ولم يدركوا حكمة اختيار الله- سبحانه -لرسوله [صلى الله عليه وسلم] ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال.
وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد؛ ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها: وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم: أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون. ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكؤون، وزخرفاً. وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا، والآخرة عند ربك للمتقين..
ثم جاء بحلقة من قصة موسى- عليه السلام -مع فرعون، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة، وهوانها على الله، وهوان فرعون الذي اعتز بها، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فقال: إني رسول رب العالمين. فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون. وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون. وقالوا: يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك، إننا لمهتدون. فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون. ونادى فرعون في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؛ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين! فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين، فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت في المصاحف العتيقة والحديثة {سورة الزخرف} وكذلك وجدتها في جزء عتيق من مصحف كوفي الخط مما كتب في أواخر القرن الخامس، وبذلك ترجم لها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه، وسميت كذلك في كتب التفسير، وسماها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه {سورة حم الزخرف}.
ووجه التسمية أن كلمة {وزخرفا} وقعت فيها ولم تقع في غيرها من سور القرآن فعرفوها بهذه الكلمة.
وهي مكية: وحكى ابن عطية الاتفاق على أنها مكية، وأما ما روي عن قتادة وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أن آية {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} نزلت بالمسجد الأقصى فإذا صح لم يكن منافيا لهذا لأن المراد بالمكي ما أنزل قبل الهجرة...
أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من الأغراض: التحدي بإعجاز القرآن لأنه آية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، والتنويه به عدة مرات وأنه أوحى الله به لتذكيرهم وتكرير تذكيرهم وإن أعرضوا كما أعرض من قبلهم عن رسلهم. وإذ قد كان باعثهم على الطعن في القرآن تعلقهم بعبادة الأصنام التي نهاهم القرآن عنها كان من أهم أغراض السورة، التعجيب من حالهم إذ جمعوا بين الاعتراف بأن الله خالقهم والمنعم عليهم وخالق المخلوقات كلها. وبين اتخاذهم آلهة يعبدونها شركاء لله، حتى إذا انتقض أساس عنادهم اتضح لهم ولغيرهم باطلهم. وجعلوا بنات لله مع اعتقادهم أن البنات أحط قدرا من الذكور فجمعوا بذلك بين الإشراك والتنقيص. وإبطال عبادة كل ما دون الله على تفاوت درجات المعبودين في الشرف فإنهم سواء في عدم الإلهية للألوهية ولبنوة الله تعالى. وعرج على إبطال حججهم ومعاذيرهم، وسفه تخييلاتهم وترهاتهم. وذكرهم بأحوال الأمم السابقين مع رسلهم، وأنذرهم بمثل عواقبهم، وحذرهم من الاغترار بإمهال الله وخص بالذكر رسالة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وخص إبراهيم بأنه جعل كلمة التوحيد باقية في جمع من عقبه وتوعد المشركين وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارهم وقوعه من مغذيات كفرهم وإعراضهم لاعتقادهم أنهم في مأمن بعد الموت.
وقد جرت آيات هذه السورة على أسلوب نسبة الكلام إلى الله تعالى عدا ما قامت القرينة على الإسناد إلى غيره...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
فصول السورة مترابطة ومتساوقة، وبدايتها مرتبطة بنهايتها أيضا مما فيه الدلالة على نزول دفعة واحدة أو متتابعة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بصورة موجزة، في سبعة فصول:
الفصل الأوّل: وهو بداية السورة، ويتحدّث عن أهمّية القرآن المجيد، ونبوّة نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومواجهة المشركين لهذا الكتاب السماوي.
الفصل الثّاني: يذكر قسماً من أدلّة التوحيد في الآفاق، ونعم الله المختلفة على البشر.
الفصل الثّالث: ويكمّل هذه الحقيقة عن طريق محاربة الشرك، ونفي ما ينسب إلى الله عز وجل من الأقاويل الباطلة، ومحاربة التقاليد العمياء، والخرافات والأساطير، كالتشاؤم من البنات، أو الاعتقاد بأنّ الملائكة بنات الله عز وجل.
الفصل الرّابع: ينقل جانباً من قصص الأنبياء الماضين وأُممهم، وتاريخهم لتجسيد هذه الحقائق. ويؤكّد على حياة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام بصورة خاصّة.
الفصل الخامس: يتعرض إلى مسألة المعاد، وجزاء المؤمنين، ومصير الكفّار المشؤوم، ويحذّر المجرمين ويهدّدهم بتهديدات وتحذيرات وإنذارات قويّة.
الفصل السّادس: وهو من أهمّ فصول هذه السورة، ويتناول القيم الباطلة التي كانت ولا تزال حاكمة على أفكار الأشخاص المادّيين، ووقوعهم في مختلف الاشتباهات حينما يقيّمون مسائل الحياة ويزنونها بالميزان الدنيويّ حتّى أنّهم كانوا يتوقّعون أن ينزل القرآن الكريم على رجل غني عظيم الثراء، لأنّهم كانوا يعتبرون قيمة الإنسان في ثرائه! لهذا نرى القرآن في آيات عديدة من هذه السورة يهاجم هذا النمط من التفكير الساذج والجاهل ويحاربه، ويوضح المثل الإِسلاميّة والإِنسانيّة السامية.
الفصل السّابع: وهو فصل المواعظ والنصائح العميقة المؤثّرة حيث يكمل الفصول الأُخرى، ليجعل من مجموع آيات السورة دواءً شافياً تماماً يترك أقوى الأثر في نفس السامع.
اعلم أن قوله {حم * والكتاب المبين} يحتمل وجهين:
(الأول) أن يكون التقدير هذه {حم والكتاب المبين} فيكون القسم واقعا على أن هذه السورة هي سورة {حم}، ويكون قوله {إنا جعلناه قرءانا عربيا} ابتداء لكلام آخر.
(الثاني) أن يكون التقدير هذه {حم}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تبدأ السورة بالحرفين: حا. ميم، ثم يعطف عليهما قوله: (والكتاب المبين)..
وحا ميم من جنس الكتاب المبين، أو الكتاب المبين من جنس حا ميم. فهذا الكتاب المبين في صورته اللفظية من جنس هذين الحرفين. وهذان الحرفان -كبقية الأحرف في لسان البشر- آية من آيات الخالق، الذي صنع البشر هذا الصنع وجعل لهم هذه الأصوات. فهناك أكثر من معنى وأكثر من دلالة في ذكر هذه الأحرف عند الحديث عن القرآن...