جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٖ} (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَوَلّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكّرْ فَإِنّ الذّكْرَىَ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فتولّ يا محمد عن هؤلاء المشركين بالله من قريش ، يقول : فأعرض عنهم حتى يأتيك فيهم أمر الله ، يقال : ولى فلان عن فلان : إذا أعرض عنه وتركه ، كما قال حصين بن ضمضم :

أمّا بَنُو عَبْس فإنّ هَجِينَهُمْ *** وَلّى فَوَارِسُهُ وأَفْلَتَ أَعْوَرَ

والأعور في هذا الوضع : الذي عور فلم تقض حاجته ، ولم يصب ما طلب .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد فتَوَلّ عَنْهُمْ قال : فأعرض عنهم .

وقوله : فَمَا أنْتَ بِمَلُومٍ يقول جلّ ثناؤه : فما أنت يا محمد بملوم ، لا يلومك ربك على تفريط كان منك في الإنذار ، فقد أنذرت ، وبلّغت ما أرسلت به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَتَوَلّ عَنْهُمْ فَمَا أنْتَ بِمَلُومٍ قال : محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَتَوَلّ عَنْهُمْ فَمَا أنْتَ بِمَلُومٍ قال : قد بلغت ما أرسلناك به ، فلست بملوم ، قال : وكيف يلومه ، وقد أدّى ما أمر به .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَتَوَلّ عَنْهُمْ فَمَا أنْتَ بِمَلُومٍ ذُكر لنا أنها لما نزلت هذه الاَية ، اشتدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر ، فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك وَذَكّرْ فإنّ الذّكْرىَ تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن مجاهد ، قال : خرج عليّ معتجرا ببرد ، مشتملاً بخميصة ، فقال لما نزلت فَتَوَلّ عَنْهُمْ فَمَا أنْتَ بِمَلُومٍ أحزننا ذلك وقلنا : أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنا حتى نزل وَذَكّرْ فإنّ الذّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٖ} (54)

تفريع على قوله : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول } إلى قوله : { بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 52 ، 53 ] لمشعر بأنهم بُعَدَاء عن أن تقنعهم الآياتُ والنذر فتوَلَّ عنهم ، أي أعرض عن الإِلحاح في جدالهم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمانهم ويغتمّ من أجل عنادهم في كفرهم فكان الله يعاود تسليته الفيْنة بعد الفَيْنَة كما قال : { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } [ الكهف : 6 ] { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } [ النحل : 127 ] ، فالتولي مراد به هذا المعنى ، وإلا فإن القرآن جاء بعد أمثال هذه الآية بدعوتهم وجِدالهم غير مرة قال تعالى : { فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون } في سورة الصافات ( 174 175 ) .

وفرع على أمره بالتولي عنهم إخباره بأنه لا لوم عليه في إعراضهم عنه وصيغ الكلام في صيغة الجملة الاسمية دون : لا نلومك ، للدلالة على ثبات مضمون الجملة في النفي .

وجيء بضمير المخاطب مسنداً إليه فقال : فما أنت بملوم } دون أن يقول : فلا ملام عليك ، أو نحوه للاهتمام بالتنويه بشأن المخاطب وتعظيمه .

وزيدت الباء في الخبر المنفي لتوكيد نفي أن يكون ملوماً .