جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ} (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ * فَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } .

يقول تعالى ذكره : إن الله هو الرزّاق خلقه ، المتكفل بأقواتهم ، ذو القوّة المتين .

اختلفت القرّاء في قراءة قوله : المَتِين ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا يحيى بن وثاب والأعمش : ذُو القُوّةِ المَتِين رفعا ، بمعنى : ذو القوّة الشديد ، فجعلوا المتين من نعت ذي ، ووجهوه إلى وصف الله به . وقرأه يحيى والأعمش «المَتِينِ » خفضا ، فجعلاه من نعت القوّة ، وإنما استجاز خفض ذلك من قرأه بالخفض ، ويصيره من نعت القوّة ، والقوّة مؤنثة ، والمتين في لفظ مذكر ، لأنه ذهب بالقوّة من قوي الحبل والشيء ، المبرم : الفتل ، فكأنه قال على هذا المذهب : ذو الحبل القويّ . وذكر الفراء أن بعض العرب أنشده :

لكُلّ دَهْرٍ قَدْ لَبِسْتُ أَثُؤْبا *** مَنْ رَيْطَةٍ واليُمْنَةَ المُعَصّبا

فجعل المعصب نعت اليمنة ، وهي مؤنثة في اللفظ ، لأن اليمنة ضرب وصنف من الثياب ، فذهب بها إليه .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا ذُو القُوّةِ المَتِينُ رفعا على أنه من صفة الله جلّ ثناؤه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأنه لو كان من نعت القوّة لكان التأنيث به أولى ، وإن كان للتذكير وجه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ذُو القُوّةِ المَتِينُ يقول : الشديد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ} (58)

تعليل لجملتي { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } [ الذاريات : 57 ] و { الرزق } هنا بمعنى ما يعمّ المال والإِطعام .

والرزاق : الكثير الإِرزاق ، والقوةُ : القدرة .

وذو القوة : صاحب القدرة . ومن خصائص ( ذو ) أن تضاف إلى أمر مهم ، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص .

والمتين : الشديد ، وهو هنا وصف لذي القوة ، أي الشديد القوة ، وقد عدّ { المتين } في أسمائه تعالى . قال الغزالي : وذلك يرجع إلى معاني القدرة . وفي « معارج النور » شرح الأسماء « المتينُ : كمال في قوته بحيث لا يعارض ولا يُدانَى » .

فالمعنى أنه المستغني غنىً مطلقاً فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله : { إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] .

وإظهار اسم الجلالة في { إن الله هو الرزاق } إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضاه : إني أَنا الرزاق ، فعدل عن الإِضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سُيرت مسِير الكلام الجامع والأمثال .

وحذفت ياء المتكلم من { يعبدون } و { يطعمون } للتخفيف ، ونظائره كثيرة في القرآن .

وفي قوله : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } طريق قصر لوجود ضمير الفصل ، أي : لا رَزَّاق ، ولا ذا قوة ، ولا متين إلا الله وهو قصر إضافي ، أي دون الأصنام التي يعبدونها .

فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها : الإِرزاق ، والقوة ، والشدة ، فأبطل ذلك بهذا القصر ، قال تعالى : { إن الذين تعبدون من دون اللَّه لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند اللَّه الرزق واعبدوه } [ العنكبوت : 17 ] ، وقال : { إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] .