ثم قال - تعالى - : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المصيطرون } أى : بل أعند هؤلاء الغافلين { خَزَآئِنُ رَبِّكَ } أى : مفاتيح أرزاقه - تعالى - لعباده ، وقدراته لهم ، حتى يقسموها عليهم كما شاءوا ، أم هم المصيطرون على أحوال هذا الكون ، المتسلطون على مقدراته ، حتى لكأنهم أربابه المتغلبون عليه ؟
كلا لا شىء لهم من ذلك إطلاقا ، وإنما هم وغيرهم فقراء إلى رزق الله - تعالى – لهم
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّك } .
انتقال بالعود إلى ردّ جحودهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك غُيّر أسلوب الأخبار فيه إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان الأصل الذي ركّزوا عليه جحودهم توهمَ أن الله لو أرسل رسولاً من البشر لكان الأحقُّ بالرسالة رجلاً عظيماً من عظماء قومهم كما حكى الله عنهم : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } [ ص : 8 ] وقال تعالى : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] يعنون قرية مكة وقرية الطائف .
والمعنى : إبطال أن يكون لهم تصرف في شؤون الربوبية فيجعلوا الأمور على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبرِ فيما وُكل عليه ، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوءة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاؤون ويمنعون من يشاؤون .
والخزائن : جمع خزينة وهي البيت ، أو الصندوق الذي تخزن فيه الأقوات ، أو المال وما هو نفيس عند خازنه ، وتقدم عند قوله تعالى : { قال اجعلني على خزائن الأرض } [ يوسف : 55 ] . وهي هنا مستعارة لما في علم الله وإرادته من إعطاء الغير للمخلوقات ، ومنه اصطفاء من هيّأهُ من الناس لتبليغ الرسالة عنه إلى البشر ، وقد تقدم في سورة الأنعام ( 50 ) قوله : { قل لا أقول لكم عندي خزائن اللَّه } قال تعالى : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللَّه اللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] . وقال : { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان اللَّه وتعالى عما يشركون } [ القصص : 68 ] .
وقد سُلك معهم هنا مسلك الإِيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله : { أم عندهم خزائن ربك } ، لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم : كاهن ، ومجنون ، وشاعر إلخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردّت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله .
فقوله تعالى هنا : { أم عندهم خزائن ربك } هو كقوله في سورة ص ( 8 ، 9 ) { أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب } وقوله في سورة الزخرف ( 32 ) { أهم يقسمون رحمتَ ربك } وكلمة عند تستعمل كثيراً في معنى الملك والاختصاص كقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] ، فالمعنى : أيملكون خزائن ربك ، أي الخزائن التي يملكها ربك كما اقتضته إضافة { خزائن } إلى { ربك } على نحو { أعنده علم الغيب فهو يرى } [ النجم : 35 ] . وقد عبر عن هذا باللفظ الحقيقي في قوله تعالى : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق } [ الإسراء : 100 ] .
إنكار لأن يكون لهم تصرف في عطاء الله تعالى ولو دون تصرف المالك مثل تصرف الوكيل والخازن وهو ما عبر عنه بالمصيطرون .
والمصيطر : يقال بالصاد والسين في أوله : اسم فاعل من صيطر بالصاد والسين ، إذا حفظ وتسلط ، وهو فعل مشتق من سيطر إذا قطع ، ومنه الساطور ، وهو حديدة يقطع بها اللحم والعظم . وصيغ منه وزن فيعل للإِلحاق بالرباعي كقولهم : بيقر ، بمعنى هلك أو تحضر ، وبيطر بمعنى شق ، وهيمن ، ولا خامس لها في الأفعال . وإبدال السين صاداً لغة فيه مثل الصراط والسراط .
وقرأ الجمهور { المصيطرون } بصاد . وقرأه قنبل عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر ، وحفص في رواية بالسين في أوله .
وفي معنى الآية قوله تعالى : { أهم يقسمون رحمتَ ربك } [ الزخرف : 32 ] ، وليس في الآية الاستدلال لهذا النفي في قوله : { أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون } لأن وضوحه كنار على عَلَم . وقد تقدم في صدر تفسير هذه السورة حديث جبير بن مطعم لما سمع هذه الآية وكانت سبب إسلامه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم عندهم خزائن} يعني أعندهم خزائن {ربك} يعني أعندهم خزائن ربك، يقول بأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا، يقول: ولكن الله يختار لها من يشاء من عباده، لقولهم: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} [ص:8]، فأنزل الله تعالى: {أم هم المصيطرون} يعني أم هم المسيطرون على الناس فيجبرونهم على ما شاءوا ويمنعونهم عما شاءوا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أعند هؤلاء المكذّبين بآيات الله خزائن ربك يا محمد، فهم لاستغنائهم بذلك عن آيات ربهم معرضون.
"أم هم المسيطرون"... اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: أم هم المسلّطون...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم هم المُنْزِلُونَ...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم هم الأرباب...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أم هم الجبّارون المتسلطون المستكبرون على الله، وذلك أن المسيطر في كلام العرب الجبار المتسلط، ومنه قول الله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ يقول: لست عليهم بجبار مسلط.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أم عندهم خزائن ربك} الآية، أي ليس عندهم خزائن ربك على ما ذكرنا في قوله تعالى: {أم خلقوا السماوات والأرض} أي لم يخلُقوا. فعلى ذلك هذا، ليس عندهم خزائن ربك ولا هم المُصيطِرون. ثم الآية تحتمل وجوها:
أحدها: تحتمل {أم عندهم خزائن ربك} أي الذي منعهم عن اتّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المَنَعة التي عندهم، ليست تلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكونوا هم لذلك أحق بالرسالة، أي ليسوا بأحق.
والثاني: يحتمل قوله تعالى: {أم عندهم خزائن ربك} أي علم الغيب، أطّلعوا على ذلك، فعلِموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقوّل على الله تعالى؟ أي ليس لهم علم الغيب...
{أم هم المُصيطرون} أي ليسوا هم المسلّطين على أرزاقهم ولا أرزاق غيرهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(أم عندهم خزائن ربك) معناه أعندهم خزائن نعمة ربك، وخزائن الله مقدوراته، لأنه يقدر من كل جنس على ما لا نهاية له، فشبه ذلك بالخزائن التي تجمع أشياء مختلفة. والمعنى كأنه قال: أعندهم خزائن رحمة ربك فقد أمنوا أن تجيئ الأمور على خلاف ما يحبون...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ} الرزق حتى يرزقوا النبوّة من شاءوا. أو: أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ {أَمْ هُمُ المسيطرون} الأرباب الغالبون، حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم؟.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أم عندهم خزائن ربك} بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء عن الله في جميع الأمور، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله كلها.
{أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون}...
المراد من الخزائن خزائن الرحمة...
.أنه إشارة إلى الأسرار الإلهية المخفية عن الأعيان...
خزائن المخلوقات التي لم يرها الإنسان ولم يسمع بها...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن، {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} أي: المحاسبون للخلائق، ليس الأمر كذلك، بل الله، عز وجل، هو المالك المتصرف الفعال لما يريد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أم عندهم} أي خاصة دون غيرهم {خزائن} ولما كان ذكر الرحمة لا يقتضيه مقصود السورة الذي هو العذاب، لم تذكر كما في ص وسبحان فقيل: {ربك} المحسن إليك بإرسالك بهذا الحديث فيعلموا أن هذا الذي أثبت به ليس من قوله لأنه لا تصرف له في الخزائن إلا بهم، فيصح قولهم: إنك تقولته وحينئذ يلزمهم فضائح لا آخر لها، منها أن يأتوا بحديث مثله بل أحسن منه من تلك الخزائن {أم هم} لا غيرهم {المسيطرون} أي الرقباء الحافظون والجبارون والمسلطون الرؤساء الحكماء الكتبة، ليكونوا ضابطين للأشياء كلها كما هو شأن كتّاب السر عند الملوك فيعلموا أنك تقولت هذا الذكر لأنهم لم يكتبوا به إليك..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أم عندهم خزائن ربك؟ أم هم المسيطرون؟).. وإذا لم يكونوا كذلك، ولم يدعوا هذه الدعوى. فمن ذا يملك الخزائن، ومن ذا يسيطر على مقاليد الأمور؟ القرآن يقول: إنه الله القابض الباسط، المدبر المتصرف. وهذا هو التفسير الوحيد لما يجري في الكون من قبض وبسط وتصريف وتدبير. بعد انتفاء أن يكونوا هم المالكين للخزائن المسيطرين على تصريف الأمور!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: إبطال أن يكون لهم تصرف في شؤون الربوبية فيجعلوا الأمور على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبرِ فيما وُكل عليه، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوءة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاؤون ويمنعون من يشاؤون... وقد سُلك معهم هنا مسلك الإِيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله: {أم عندهم خزائن ربك}، لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم: كاهن، ومجنون، وشاعر إلخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردّت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله...