التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخۡلُقُ بَنَاتٖ وَأَصۡفَىٰكُم بِٱلۡبَنِينَ} (16)

ثم ساق - سبحانه - ما يدل على السخرية منهم ومن أحوالهم الشاذة فقال : { أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بالبنين } فالاستفهام للتوبيخ والإِنكار .

و { أَصْفَاكُم } أى : آثركم واختصكم . يقال : أصفى فلان فلانا بالشي ، إذا اختصه به . ومنه قولهم لما يختص السلطان به نفسه من الأشياء النفسية : الصوافى .

أى : لقد زعمتم أن الملائكة بنات الله ، فخبرونى بربكم هلى يعقل أن يتخذ الله - تعالى - أولاده من البنات اللائى هن أقل منزلة من البنين فى تقديركم ، ويترك لكم الذكور ؟ إن من شأن الذى يختار جنس الأولاد أن يختار أعلاهم منزلة فبأى منطق زعمتم أن الملائكة بنات الله .

قال صاحب الكشاف : قوله : { أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ . . . } أى : بَلْ آتخذ والهمزة للإِنكار ، تجهيلا لهم ، وتعجيبا من شأنهم ، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءا حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزءين . وهو الاناث دون الذكور .

فكأنه قيل : هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه - تعالى - جائزة فرضا وتمثيلا أما تستحون من الشطط فى القسمة ، ومن ادعائكم أن آثركم على نفسه بخير الجزءين

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخۡلُقُ بَنَاتٖ وَأَصۡفَىٰكُم بِٱلۡبَنِينَ} (16)

وقوله تعالى : { أم اتخذ } إضراب وتقرير ، وهذه حجة بالغة عليهم . إذ المحمود من الأولاد والمحبوب قد خوله الله بني آدم ، فكيف يتخذ هو لنفسه النصيب الأدنى . { وأصفاكم } معناه : خصكم وجعل ذلك صفوة لكم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخۡلُقُ بَنَاتٖ وَأَصۡفَىٰكُم بِٱلۡبَنِينَ} (16)

{ أم } للإضراب وهو هنا انتقالي لانتقال الكلام من إبطال معتقدهم بنوة الملائكة لله تعالى بما لزمه من انتقاص حقيقة الإلهية ، إلى إبطاله بما يقتضيه من انتقاص ينافي الكمال الذي تقتضيه الإلهية . والكلام بعد { أم } استفهام ، وهو استفهام إنكاري كما اقتضاه قوله : { وأصفاكم بالبنين } . ومحل الاستدلال أن الإناث مكروهة عندهم فكيف يجعلون لله أبناءً إناثاً وهلاَّ جعلوها ذكوراً . وليست لهم معذرة عن الفساد المنجرّ إلى معتقدهم بالطريقتين لأن الإبطال الأول نظري يقيني والإبطال الثاني جدليّ بديهي قال تعالى : { ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمةٌ ضيزى } [ النجم : 21 ، 22 ] . فهذه حجة ناهضة عليهم لاشتهارها بينهم .

ولما ادَّعت سَجَاححِ بنتُ الحارث النبوءة في بني تميم أيام الردة وكان قد ادّعى النبوءةَ قبلها مُسَيْلمةُ الحنفي ، والأسود العَنْسي ، وطُليحة بن خويلد الأسدي ، قال عُطاردُ بن حاجب التميمي :

أضحت نبيئتُنا أنثى نُطيف بها *** وأصبحتْ أنبياء النّاس ذكرانا

وأوثر فعل { اتّخذ } هنا لأنه يشمل الاتخاذ بالولادة ، أي بتكوين الانفصال عن ذات الله تعالى بالمزاوجة مع سَرَوات الجنّ ، ويشمل ما هو دون ذلك وهو التبنّي فعَلَى كِلا الفَرضين يتوجه إنكارُ أن يكون ما هو لله أدْوَنَ مما هوَ لهم كما قال تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون } [ النحل : 62 ] . وقد أشار إلى هذا قوله : { وأصفاكم بالبنين } ، فهذا ارتقاء في إبطال معتقدهم بإبطال فرض أن يكون الله تبنَّى الملائكة ، سَدًّا على المشركين بابَ التأول والتنصللِ من فساد نسبتهم البناتِ إلى الله ، فلعلّهم يقولون : ما أردنا إلا التبني ، كما تنصلوا حين دمغتهم براهين بطلان إلهية الأصنام فقالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ، وقالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] .

واعلم أن ما تُؤذن به { أم } حيثما وقعتْ من تقدير استفهام بعدها هو هنا استفهام في معنى الإنكار وتسلط الإنكار على اتخاذ البنات مع عدم تقدم ذكر البنات لكوْننِ المعلوممِ من جعل المشْركين لله جزءاً أن المجعول جزءاً له هو الملائكة وأنهم يجعلون الملائكة إناثاً ، فذلك معلوم من كلامهم . وجملة { وأصفاكم بالبنين } في موضع الحال .

والنفي الحاصل من الاستفهام الإنكاري منصبّ إلى قيد الحال ، فحصل إبطال اتخاذ الله البناتِ بدليلين ، لأن إعطاءَهم البنين واقع فنفي اقترانه باتخاذه لنفسه البنات يقتضي انتفاء اتخاذه البنات فالمقصود اقتران الإنكار بهذا القيد . وبهذا يتضح أن الواو في جملة { وأصفاكم } ليست واو العطف لأن إنكار أن يكون أصفاهم بالبنين لا يقتضي نفي الأولاد الذكور عن الله تعالى . والخطابُ في { وأصفاكم } موجه إلى الذين جعلوا له من عباده جزءاً ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون الإنكار والتوبيخ أوقع عليهم لمواجهتهم به .

وتنكير { بنات } لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس . وأما تعريف { البنين } باللام فهو تعريف الجنس المتقدم في قوله : { الحمدُ لله } في سورة الفاتحة ( 2 ) . والمقصود منه هنا الإشارة إلى المعروف عندهم المتنافَس في وجوده لديهم وتقدم عند قوله { يهب لمن يشاء إناثاً ويَهَب لمن يشاء الذّكور } في سورة الشورى ( 49 ) .

وتقديم { البنات } في الذكر على { البنين } لأن ذكرهن أهم هنا إذ هو الغرض المسوق له الكلام بخلاف مقام قوله : { أفأصفاكم ربّكم بالبنين واتخذ من الملائكة إِناثاً } في سورة الإسراءِ ( 40 ) . ولِمَا في التقديم من الردّ على المشركين في تحقيرهم البنات وتطيُّرِهم منهن مثل ما تقدم في سورة الشورى .

والإصفاء : إعطاء الصفوة ، وهي الخيار من شيء .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخۡلُقُ بَنَاتٖ وَأَصۡفَىٰكُم بِٱلۡبَنِينَ} (16)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

يقول الله تعالى ردا عليهم: {أم} يقول: {اتخذ} الرب لنفسه.

{مما يخلق بنات}...؟

{وأصفاكم بالبنين}: واختصكم بالبنين...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"أمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ" يقول جلّ ثناؤه موبخا هؤلاء المشركين الذين وصفوه بأن الملائكة بناته: اتخذ ربكم أيها الجاهلون مما يخلق بنات، وأنتم لا ترضون لأنفسكم، "وأصفاكم بالبنين": يقول: وأخلصكم بالبنين، فجعلهم لكم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يذكر في هذه الآيات سَفه أهل مكة وشدة تعنّتهم؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالرسل، وما ذكروا من اتخاذ الولد وما ادّعوا بأن الملائكة بنات الله، وما أقرّوا حين سُئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ أن الله، هو خالق ذلك كله مما لا سبيل إلى معرفة ما قالوا، وادّعوا إلا بالرسل، وهم يُنكرون الرسل؛ فكيف ادّعوا ما ادّعوا؟ وهم يُنكرون خبرهم؛ لأن من ادّعى ولد الغائب، لا يُعلمه إلا بخبر صادق. وكذلك معرفة الملائكة إنما هو بخبر يأتيهم. ثم هم ينكرون الأخبار والرسل، فيتناقض دعواهم ويضمحلّ، على ما ذكرنا...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

في هذا القول حجة عليهم؛ لأنه ليس بحكيم من يختار لنفسه أدون المنزلتين ولغيره أعلاهما، فلو كان على ما يقول المشركون من جواز اتخاذ الولد عليه، لم يتخذ لنفسه البنات ويصفيهم بالبنين، فغلطوا في الأصل الذي هو جواز اتخاذ الولد عليه، وفي البناء على الأصل باتخاذ البنات، فنعوذ بالله من الخطاء في الدين.

ومعنى "أصفاكم "خصكم وآثركم بالذكور واتخذ لنفسه البنات...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ففي قولهم ضلالٌ إذا حكموا للقديم بالوَلَد، وفيه جهلٌ إذا حكموا له بالبنات ولهم بالبنين- وهم يستنكفون من البنات.. ثم.. أي عيب في البنات؟ ثم.. كيف يحكمون بأن الملائكة إناثٌ -وهم لم يشاهدوا خِلْقَتَهم؟ كلُّ ذلك كان منهم خطأ محظوراً...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{أم اتخذ} أي عالج هو نفسه فأخذ بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم.

{مما يخلق} أي يجدد إبداعه في كل وقت كما اعترفتم.

{بنات} فلم يقدر بعد التكليف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزئين إليكم، ونكر لتخصيصهم اتخاذه ببعض هذا الصنف الذي شاركه فيه غيره، وعطف على قوله "اتخذ "ليكون منفياً على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار.

{وأصفاكم} وهو السيد وأنتم عبيده.

{بالبنين} أي الجزء الأكمل لديكم المستحق لأن يكون دائماً مستحضراً في الخاطر فلذلك عرفه؛ ولأنهم ادعوا أن هذا النوع كله خاص بهم لم يشاركهم في شيء منه، فكان هذا الكفر الثاني أعرق في المحال من الأول؛ للزيادة على مطلق الحاجة بالسفه في أنه رضي بالدون الخسيس فلم يشاركهم في شيء من الأعلى، بل جعل لهم ذلك خالصاً صافياً عن أدنى ما يشوبه من كدر...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والكلام بعد {أم} استفهام، وهو استفهام إنكاري كما اقتضاه قوله: {وأصفاكم بالبنين}. ومحل الاستدلال أن الإناث مكروهة عندهم فكيف يجعلون لله أبناءً إناثاً وهلاَّ جعلوها ذكوراً. وليست لهم معذرة عن الفساد المنجرّ إلى معتقدهم بالطريقتين لأن الإبطال الأول نظري يقيني والإبطال الثاني جدليّ بديهي...

وأوثر فعل {اتّخذ} هنا؛ لأنه يشمل الاتخاذ بالولادة، أي بتكوين الانفصال عن ذات الله تعالى بالمزاوجة مع سَرَوات الجنّ، ويشمل ما هو دون ذلك وهو التبنّي فعَلَى كِلا الفَرضين يتوجه إنكارُ أن يكون ما هو لله أدْوَنَ مما هوَ لهم كما قال تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون} [النحل: 62]. وقد أشار إلى هذا قوله: {وأصفاكم بالبنين}، فهذا ارتقاء في إبطال معتقدهم بإبطال فرض أن يكون الله تبنَّى الملائكة سَدًّا على المشركين بابَ التأول والتنصلِ من فساد نسبتهم البناتِ إلى الله، فلعلّهم يقولون: ما أردنا إلا التبني، كما تنصلوا حين دمغتهم براهين بطلان إلهية الأصنام فقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، وقالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18].

واعلم أن ما تُؤذن به {أم} حيثما وقعتْ من تقدير استفهام بعدها هو هنا استفهام في معنى الإنكار، وتسلط الإنكار على اتخاذ البنات مع عدم تقدم ذكر البنات لكوْنِ المعلومِ من جعل المشْركين لله جزءاً؛ أن المجعول جزءاً له هو الملائكة، وأنهم يجعلون الملائكة إناثاً، فذلك معلوم من كلامهم. وجملة {وأصفاكم بالبنين} في موضع الحال. والنفي الحاصل من الاستفهام الإنكاري منصبّ إلى قيد الحال، فحصل إبطال اتخاذ الله البناتِ بدليلين؛ لأن إعطاءَهم البنين واقع، فنفي اقترانه باتخاذه لنفسه البنات يقتضي انتفاء اتخاذه البنات؛ فالمقصود اقتران الإنكار بهذا القيد. وبهذا يتضح أن الواو في جملة {وأصفاكم} ليست واو العطف لأن إنكار أن يكون أصفاهم بالبنين لا يقتضي نفي الأولاد الذكور عن الله تعالى.

والخطابُ في {وأصفاكم} موجه إلى الذين جعلوا له من عباده جزءاً، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون الإنكار والتوبيخ أوقع عليهم لمواجهتهم به،وتنكير {بنات} لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس. وأما تعريف {البنين} باللام فهو تعريف الجنس المتقدم في قوله: {الحمدُ لله} في سورة الفاتحة (2). والمقصود منه هنا الإشارة إلى المعروف عندهم المتنافَس في وجوده لديهم وتقدم عند قوله {يهب لمن يشاء إناثاً ويَهَب لمن يشاء الذّكور} في سورة الشورى (49). وتقديم {البنات} في الذكر على {البنين}؛ لأن ذكرهن أهم هنا إذ هو الغرض المسوق له الكلام بخلاف مقام قوله: {أفأصفاكم ربّكم بالبنين واتخذ من الملائكة إِناثاً} في سورة الإسراءِ (40). ولِمَا في التقديم من الردّ على المشركين في تحقيرهم البنات وتطيُّرِهم منهن مثل ما تقدم في سورة الشورى.

والإصفاء: إعطاء الصفوة، وهي الخيار من شيء...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكريّة لدى هؤلاء من أجل إدانة هذا التفكير الخرافي، لأنّهم كانوا يرجّحون جنس الرجل على المرأة، وكانوا يعدّون البنت عاراً عادةً يقول تعالى: (أم اتخذ ممّا يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)؟ فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم، فكيف ترجّحون أنفسكم وتعلونها على الله، فتجعلون نصيبه بنتاً، ونصيبكم ولداً؟

صحيح أنّ المرأة والرجل متساويان في القيم الإِنسانيّة السامية عند الله سبحانه، إلاّ أنّ الاستدلال باعتقادات المخاطب يترك أحياناً في فكره أثراً يدفعه إلى إعادة النظر فيما يعتقد.