ثم بين - سبحانه - حالهم عندما يحيط بهم البلاء فقال - تعالى - : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين . . } أى : أن من صفات هؤءلا الجاحدين ، أنهم إذا ركبوا السفن ، وجرت بهم بريح طيبة وفرحوا بهان ثم جاءتهم بعد ذلك ريح عاصف ، وظنوا ان الغرق قد اقترب منهم ، تضرعوا إلى الله - تعالى - مخلصين له العبادة والدعاء .
{ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } بفضله وكرمه ، وأنقذهم من الغرب المحقق { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } مع الله - تعالى - غيره فى العبادة والطاعة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإذا ركبوا في الفلك} يعني السفن، يعني كفار مكة يعظهم ليعتبروا {دعوا الله مخلصين له الدين} يعني موحدين له بالتوحيد {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} فلا يوحدون كما يوحدونه عز وجل في البحر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه "دَعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ "يقول: أخلصوا لله عند الشدّة التي نزلت بهم التوحيد، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ولكن بالله الذي خلقهم.
"فلَمّا نَجّاهُمْ إلى البَرّ" يقول: فلما خلصهم مما كانوا فيه وسلّمهم، فصاروا إلى البرّ إذا هم يجعلون مع الله شريكا في عبادتهم، ويدعون الآلهة والأوثان معه أربابا.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
هذا إخبار عن عنادهم وأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله عز وجل وحده، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلها آخر. وفي تسميتهم مخلصين: ضرب من التهكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وقفهم تعالى على حالهم في البحر عند الخوف العظيم، فإن كل بشر ينسى كل صنم وغيره ويتمسك بالدعاء والرغبة إلى الله تعالى، وقوله {إذا هم يشركون} أي يرجعون إلى ذكر أصنامهم، وتعظيمها...
إشارة إلى أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا، وبيان ذلك هو أنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا، فإذا أنجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ختم هذه الآية بما أفهم أنهم لا يعلمون، والتي قبلها بأن أكثرهم لا يعقلون، سبب عن ذلك قوله: {فإذا} أي فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم أنهم إذا {ركبوا} أي البحر {في الفلك} أي السفن {دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجّاهم إلى البر إذا هم يشركون} فصح أنهم لا يعلمون، لأنهم لا يعقلون، حيث يقرون بعجز آلهتهم ويشركونها معه، ففي ذلك أعظم التهكم بهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذه الوقفة للوزن والتقويم يمضي في عرض ما هم فيه من متناقضات: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين. فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون).. وهذا كذلك من التناقض والاضطراب. فهم إذا ركبوا في الفلك؛ وأصبحوا على وجه اليم كاللعبة تتقاذفها الأمواج؛ لم يذكروا إلا الله. ولم يشعروا إلا بقوة واحدة يلجؤون إليها هي قوة الله. ووحدوه في مشاعرهم وعلى ألسنتهم سواء؛ وأطاعوا فطرتهم التي تحس وحدانية الله: (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) ونسوا وحي الفطرة المستقيم ونسوا دعاءهم لله وحده مخلصين له الدين وانحرفوا إلى الشرك بعد الإقرار والتسليم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها، والمفرع عليه محذوف ليس هو واحد من الأخبار المتقدمة بخصوصه ولكنه مجموع ما تدل عليه قوة الحديث عنهم وما تقتضيه الفاء.
والتقدير: هم أي المشركون على ما وُصفوا به من الغفلة عن دلائل الوحدانية وإلغائهم ما في أحوالهم من دلائل الاعتراف لله بها لا يضرعون غلا إلى الله فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله، فضمائر جمع الغائبين عَائدة إلى المشركين. وهذا انتقال إلى إلزامهم بما يقتضيه دعاؤهم حين لا يشركون فيه إلهاً آخر مع الله بعد إلزامهم بموجبات اعترافاتهم فإنهم يدعون أصنامهم في شؤون من أحوالهم ويستنصرونهم ولكنهم إذا أصابهم هول توجهوا بتضرعهم إلى الله. وإنما خصّ بالذكر حال خوفهم من هول ابحر في هذه الآية وفي آيات كثيرة مثل ما في سورة يونس وما في سورة الإسراء لأن أسفارهم في البر كانوا لا يعتريهم فيها خوفٌ يعم جميع السفر لأنهم كانوا يسافرون قوافلَ، معهم سلاحهم، ويمرون بسبل يألفونها فلا يعترضهم خوف عام، فأما سفرهم في البحر فإنهم يَفْرَقون من هوْله ولا يدفعه عنهم وفرة عدد ولا قوة عُدد، فهم يضرعون إلى الله بطلب النجاة ولعلهم لا يدعون أصنامهم حينئذ...
والإخلاص: التمحيص والإفراد... و {الدين}: المعاملة... ويفسر ذلك قوله {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}. فجيء بحرف المفاجأة للدلالة على أنهم ابتدروا إلى الإشراك في حين حصولهم في البر، أي أسرعوا إلى ما اعتادوه من زيارة أصنامهم والذبح لها. والمفاجأة عرفية بحسب ما يقتضيه الإرساء في البر والوصول إلى مواطنهم فكانوا يبادرون بإطعام الطعام عند الرجوع من السفر...
ينقلنا السياق هنا من الكلام عن حقيقة كل من الدنيا والآخرة إلى الحديث عن الفلك، فما العلاقة بينهما؟ المتكلم هنا هو الله تعالى، وواضع كل شيء في موضعه، ولا يغيب عنك أنه لا بد أن تتدبر كلام الله لتفهم مراده، والعلاقة هنا أن الآية السابقة جاءت لتقرر أن الدنيا دار لهو ولعب لا فائدة منها إذا بعدت عن منهج الله، ولم تحسب حسابا لحياة أخرى هي الحياة الحقيقية وهي الحيوان، فكان على العاقل أن يحرص على الآخرة، وأن يعمل لها باتباع منهج الله في الدنيا. إذن: فالدنيا ليست غاية، بل هي وسيلة، وأنت أيها الذي أعرضت عن منهج ربك جعلت الدنيا غايتك، والدنيا إن كانت هي الغاية فما أتفهها من غاية، إنما اجعلها وسيلة للآخرة ومزرعة لدار الحيوان. وكذلك الحال في الفلك، فهي وسيلة توصلك إلى هدف، وإلى غاية، وليست هي غاية في حد ذاتها. {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين}.
... وواضح من السياق أنها ليست دعوة الحمد، كأن يقولوا مثلا {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} (الزخرف 13) بل هي دعوة الاضطرار بعد أن تعرضوا لشدة وعطب لا تنجيهم منها أسبابهم، بدليل قوله تعالى بعدها: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} فهذه تعطينا أنهم ركبوا في السفينة، فلما تعرضوا للعطب، وضاقت بهم أسبابهم دعوا الله مخلصين له الدين. وفي لقطة أخرى يقول القرآن: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين22} (يونس) فمعنى {أحيط بهم...
22} (يونس) أي: لا يوجد لهم صفر ولا مهرب ولا مفزع يفزعون إليه إلا أن يتوجهوا إلى الله بدعاء خالص ويقين إيمان في أنهم لا ملجأ لهم إلا الله، وقد كانوا في أول الرحلة فرحين بمركبهم مسرورين به، وساعتها لم يكن الله في بالهم، إنما لما ضاقت بهم الحيل عادوا إلى الحق، فالوقت لا يحتمل المراوغة. لأن الإنسان عادة لا يخدع نفسه، فحتى الكافر حين تضيق به أسباب النجاة يلجأ بالفطرة إلى الله الحق، وينسى آلهته ومعبوداته من دون الله؛ لأنه لا يسلم نفسه أبدا، ولا يتمادى حينئذ في كذبة الآلهة والأصنام. لذلك: {دعوا الله مخلصين له الدين} دعوة خالصة بيقين ثابت في الإله الحق، دعوة لا تشوبها شائبة شرك، لا ظاهر ولا خفي، فلا ينفع في هذا الوقت إلا الله المعبود بحق.
ثم يلفت نظرنا من الآن إلى قضية أخرى قبل أن نتعرض للمخاطر: {وإن يمسسك الله بضر} (يونس 107) فلا تتعب نفسك، وتذهب هنا أو هناك؛ لأنه {فلا كاشف له إلا هو} (يونس 107) هذه نصيحتي لك؛ لأنك صنعتي، وأنا أحب أن تكون صنعتي على أرقى ما تكون من الكمال، فإذا مسك ضر لا تقدر على دفعه بأسبابك، فعليك بباب ربك.
هذه ثلاث قضايا أو نصائح نقدمها لك قبل أن تحل بك الأحداث والمصائب؛ إن استغنيت ستطغى، وأن إلى ربك الرجعى، وإذا مسك ضر؛ ولا حيلة لك في دفعه بأسبابك، فليس لك إلا الله تفزع إليه.
والإله الذي ينبهنا إلى المخاطر لنتلافاها إله رحيم. إذن: فأنتم تحبون الحياة، ولما نزلت بكم الأحداث والخطوب في السفينة خفتم الموت، ودعوتم الله بالنجاة، فأنتم حريصون على الحياة الدنيا، فلماذا لا تؤمنون بالله فتنالون حياة أخرى أبقى وأدوم؟ والطريق إليها بالإيمان واليقين، وبمنهج الله في (أفعل) و (لا تفعل). هذه قضية ذكرها القرآن، أما واقع الحياة فقد أكدها، وجاءت الأحداث وفق ما قال.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وملخص الكلام: إنّه توجد في داخل قلب الإنسان دائماً نقطة نورانية، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة، وأقرب طريق إلى الله. إلاّ أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور وخاصة عند السلامة ووفور النعمة تلقي عليها أستاراً، غير أن طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار، وتتجلى نقطة النور آنذاك. وعلى هذا، فإنّ أئمّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة «معرفة الله» ويغرقون في الشك والحيرة.. بهذا الأمر. وقصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله، والذي أرشده الإمام الصادق (عليه السلام) عن طريق الفطرة والوجدان، سمعناها جميعاً إذ قال: يا بن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني! فقال له الإمام (عليه السلام): «يا عبد الله، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال: نعم. قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟! قال: نعم! قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟! قال: نعم. قال الصادق (عليه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث»...