ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله - تعالى - للمؤمنين الصادقين من حسن الثواب ، بعد أن صرحت بما توعد به - سبحانه - المجادلين فيه بغير علم بسوء العقاب ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ . . . } .
أي أن الله تعالى بفضله وكرمه ، يدخل عباده الذين أمنوا إيمانا حقا ، وعملوا الأعمال الصالحات جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار إن الله تعالى يفعل ما يريد فعله على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته دون أن ينازعه في ذلك منازع ، أو يعارضه معارض ، فهو سبحانه لا يسأل عما يفعل .
لما ذكر تبارك وتعالى حالة من يعبده { على حرف } [ الحج : 11 ] وسفه رأيهم وتوعدهم بخسارة الآخرة عقب ذلك بذكر مخالفيهم من أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به من إدخاله إياهم الجنة ، ثم أخذت الآية في توبيخ أولئك الأولين وإسلامهم إلى رأيهم ، وإحالتهم على ما فيه عنتهم وليس فيه راحتهم كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله تبارك وتعالى لن ينصر محمداً وأتباعه ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا فمن ظن غير ذلك .
هذا مقابل قوله { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } [ الحج : 9 ] وقوله : { خسر الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] . فالجملة معترضة ، وقد اقتصر على ذكر ما للمؤمنين من ثواب الآخرة دون ذكر حالهم في الدنيا لعدم أهمية ذلك لديهم ولا في نظر الدين .
وجملة { إن الله يفعل ما يريد } تذييل للكلام المتقدم من قوله { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } [ الحج : 8 ] إلى هنا ، وهو اعتراض بين الجمل الملتئم منها الغرض . وفيها معنى التعليل الإجمالي لاختلاف أحوال الناس في الدنيا والآخرة .
وفعْلُ الله ما يريد هو إيجاد أسباب أفعال العباد في سُنة نظام هذا العالم ، وتبيينه الخير والشرّ ، وترتيبه الثواب والعقاب ، وذلك لا يحيط بتفاصيله إلا الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر ما أعد للصالحين، فقال سبحانه: {إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} يقول: تجري العيون من تحت البساتين {إن الله يفعل ما يريد}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الله يدخل الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله في الدنيا، وانتهوا عما نهاهم عنه فيها "جَنّاتٍ "يعني بساتين، "تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" يقول: تجري الأنهار من تحت أشجارها.
"إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ" فيعطي ما شاء من كرامته أهل طاعته وما شاء من الهوان أهل معصيته.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{الَّذِينَ ءَامَنُواْ}: أي صَدَّقُوا ثم حقَّقُوا؛ فالإيمانُ ظاهِرُه التصديق وباطنه التحقيق، ولا يصل العبد إليهما إلا بالتوفيق...
ويقال الإيمان ما يوجب الأمان، ففي الحال يجب الإيمان وفي المآل يوجب الأمان...
{وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}: العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويصلح للثواب، وهو أن يكون على الوجه الذي تعلَّق به الإيمان. والجنان التي يدخل المؤمنين فيها مؤجلة ومعجلة، فالمُؤَجَّلَة ثواب وتوبة، والمعَجَّلةُ أحوال وقربة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذا كلام قد دخله اختصار. والمعنى إن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما ذكر تبارك وتعالى حالة من يعبده {على حرف} وسفه رأيهم وتوعدهم بخسارة الآخرة، عقب ذلك بذكر مخالفيهم من أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به من إدخاله إياهم الجنة. ثم أخذت الآية في توبيخ أولئك الأولين وإسلامهم إلى رأيهم، وإحالتهم على ما فيه عنتهم وليس فيه راحتهم كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله تبارك وتعالى لن ينصر محمداً وأتباعه ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا فمن ظن غير ذلك.
اعلم أنه سبحانه لما بين في الآية السابقة حال عبادة المنافقين وحال معبودهم، بين في هذه الآية صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم، أما عبادتهم فقد كانت على الطريق الذي لا يمكن صوابه، وأما معبودهم فلا يضر ولا ينفع. وأما المؤمنون فعبادتهم حقيقية ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة، ثم بين كمال الجنة التي تجمع بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار،وبين تعالى أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان، زيادة على أجورهم كما قال تعالى: {فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله}.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" إن الله يفعل ما يريد "أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء، فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله، لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد...
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
هذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبد الله على حرف.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
"إنّ الله يفعل ما يريد" أي بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأهل معصيته من الهوان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص {يدخل الذين آمنوا} برسله وما دعت إليه من شأنه {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان بعد ما ضرهم في الدنيا بأنواع المعايب، تطهيراً لهم مما اقترفوه من الزلات، وأهوتهم إليه الهفوات {جنات تجري من تحتها} أي من أيّ مكان أردت من أرضها {الأنهار} ولما كان هذا أمراً باهراً دل على سهولته بقوله: تصريحاً بما أفهمه السياق من وصف الاختيار: {إن الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يفعل ما يريد} من كل نفع وضر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والله يدخر للمؤمنين به ما هو خير من عرض الحياة الدنيا كله، حتى لو خسروا ذلك العرض كله في الفتنة والابتلاء:... فمن مسه الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت ولا يتزعزع، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا مقابل قوله {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} [الحج: 9] وقوله: {خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11]. فالجملة معترضة، وقد اقتصر على ذكر ما للمؤمنين من ثواب الآخرة دون ذكر حالهم في الدنيا لعدم أهمية ذلك لديهم ولا في نظر الدين...
وفعْلُ الله ما يريد هو إيجاد أسباب أفعال العباد في سُنة نظام هذا العالم، وتبيينه الخير والشرّ، وترتيبه الثواب والعقاب، وذلك لا يحيط بتفاصيله إلا الله تعالى.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
المتبادر أن هذه الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة مباشرة؛ حيث انطوت على التنويه بالذين آمنوا وأخلصوا وثبتوا في إيمانهم وعملوا الأعمال الصالحة؛ ووعد لهم بجنات الله الأخروية مقابلة للتنديد الذي احتوته تلك الآيات بالذين يعبدون الله على حرف وبالفريقين اللذين وصفا في الآية الأولى. وهذا من مألوف النظم القرآني. وواضح أنها احتوت حثا على الثبات في الإيمان والإقبال على العمل الصالح وبيانا بأن جزاء ذلك مضمون عند الله، وتوكيدا بتقبيح الأخلاق المنعوتة في الآيات السابقة.
بعد أن تكلم الحق- سبحانه وتعالى- عن الكفار وأهل النار ومن يعبدون الله على حرف، كان لا بد أن يأتي بالمقابل، لأن النفس عندها استعداد للمقارنة والتأمل في أسباب دخول النار، وفي أسباب دخول الجنة، وهذا أجدى في إيقاع الحجة. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم (13) وإن الفجار لفي جحيم (14)} [الانفطار]،...
فذكر النعمة وحدها دون أن تقابلها النقمة لا تؤتي الأثر المطلوب، لكن حينما تقابل النعمة بالنقمة وسلب الضر بإيجاب النفع فإن كلاهما يظهر الآخر...
والإيمان: عمل قلبي ومواجيد تطمئن بها النفس، لكن الإيمان له مطلوب: فأنت آمنت بالله، واطمأن قلبك إلى أن الله هو الخالق الرازق واجب الوجود.. إلخ، فما مطلوب هذا الإيمان؟ مطلوب الإيمان أن تستمع إلى أوامره، لأنه حكيم، وتثق في قدرته لأنه قادر، وتخاف من بطشه لأنه جبار، ولا تيأس من بسطه لأنه باسط، ولا تأمن قبضه لأنه قابض. لقد آمنت بكل هذه القضايا، فحين يأمرك بأمر فعليك أن تستحضر حيثيات هذا الأمر، وأنت واثق أن ربك عز وجل لم يأمرك ولم ينهك من فراغ، إنما من خلال صفات الكمال فيه سبحانه، أو صفات الجلال والجبروت، فاستحضر في كل أعمالك وفي كل ما تأتي أو تدع هذه الصفات. لذلك، جمعت الآية بين الإيمان والعمل الصالح: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات.. (14) [الحج]..
{إن الله يفعل ما يريد}: لأنه سبحانه لا يعجزه شيء، ولا يعالج أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)} [يس]: ولو تأملت هذه الآية لوجدت الشيء الذي يريده الله ويأمر بكونه موجودا في الحقيقة، بدليل أن الله تعالى يخاطبه {يقول له كن فيكون (82)} [يس]: فهو- إذن- كائن فعلا، وموجود حقيقة، والأمر هنا إنما هو لإظهاره في عالم المشاهدة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر،... وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلاّ بلسانهم، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة، وليس لهم عمل صالح، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة.. ومن جهة أُخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير. ولئن خسر الظالمون كلّ شيء، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.