التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (9)

{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله } - تعالى - { عَنِ } بر وصلى { الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين } أى قاتلوكم لأجل أنكم على غير دينهم ، { وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ } التى تسكنونها ، { وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ } أي : وعاونوا غيرهم على إخراجكم من دياركم ، يقال : ظاهر فلان فلانا على كذا ، إذا عاونه فى الوصول إلى مطلبه .

وقوله : { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدل اشتمال من { الذين قَاتَلُوكُمْ } أى : ينهاكم - سبحانه - عن موالاة ، ومواصلة ، وبر الذين قاتلوكم فى الدين ، وأخرجوكم من دياركم .

{ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } أي : ومن يبر منكم - أيها المؤمنون - هؤلاء الذين قاتلوكم { فأولئك } الذين يفعلون ذلك هُمُ الظالمون } لأنفسهم ظلما شديدا يستحقون بسببه العقاب الذى لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .

فأنت ترى أن الآية الأولى قد رخصت لنا فى البر والصلة - قولا وفعلا - للكفار الذين لم يقاتلونا لأجل ديننا ، ولم يحاولوا الإساءة إلينا ، بينما الآية اثانية قد نهتنا عن البر أو الصلة لأولئك الكافرين ، الذين قاتلونا من أجل مخالفتنا لهم فى العقيدة ، وحاولوا إخراجنا من ديارنا أو أخرجوا بعضنا بالفعل - وعاونوا غيرهم على إنزال الأذى بنا .

هذا ، ويرى بعض العلماء أن الآية الأولى منسوخة .

قال القرطبى : قال ابن زيد : كان هذا فى أول الإسلام عند الموادعة ، وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ هذا الحكم .

قال قتادة : نسخها قوله - تعالى - { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } والذى عليه المحققون من العلماء ، أن الآية محكمة وليست منسوخة ، لأنها تقرر حكما يتفق مع شريعة الإسلام فى كل زمان ومكان ، وهو أننا لا نؤذي إلا من آذانا ، ولا نقاتل إلا من أظهر العداوة لنا بأية صورة من الصور .

وأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تؤيد عدم النسخ ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستقبل الوفود التي تأتيه لمناقشتها فى بعض الأمور الدينية ، مقابلة كريمة ، ويتجلى ذلك فيما فعله مع وفد نجران ، ووفد تميم وغيرهما .

كذلك مما يؤيد عدم النسخ ، أنه لا تعارض بين هذه الآية ، وبين آية السيف ، لأن الأمر بالقتال إنما هو بالنسبة لقوم يستحقونه ، بأن يكونوا قد قالتونا أو أخرجونا من ديارنا ، كما جاء فى الآية الثانية .

وأما الرخصة فى البر والصلة ، فهى فى شأن الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ، كما جاء فى الآية الثانية .

وأما الرخصة فى البر والصلة ، فهى فى شأن الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ، وهذا ما صرحت به الآية الأولى .

ورحم الله الإمام ابن جرير فقد قال بعد أن ذكر الآراء فى ذلك : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال : عنى بقوله - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين . . } جميع أصناف الملل والأديان ، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم . . ويشمل ذلك من كانت تلك صفته ، دون تخصيص لبعض دون بعض .

ولا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ، لن بر المؤمن من أهل الحرب ، ممن بينه وبينه قرابة نسب ، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب ، غير محرم ، ولا منهى عنه ، إذا لم يكن فى ذلك ، دلالة له أو لأهل الحرب ، على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (9)

روي أن قتيلة بنت عبد العزى قدمت مشركة على بنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم كمشركي مكة فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين وبعضهم أعانوا المخرجين أن تولوهم بدل من الذين بدل الاشتمال ، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون لوضعهم الولاية في غير موضعها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (9)

و { ظاهروا } معناه : عاونوا ، و «الذين قاتلوا في الدين وأخرجوا » هم مردة قريش وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } الآية نزلت إثر صلح الحديبية ، وذلك أن الصلح تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلماً من رجل وامرأة فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية ، وحكم أن المهاجرة لا ترد إلى الكفار بل تبقى تستبرئ وتتزوج ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق ، وأمر أيضاً المؤمنين بطلب صداق من فرت امرأته من المؤمنين ، وحكم تعالى بهذا في النازلة وسماهم مؤمنات قبل أن يتيقن ذلك إذ هو ظاهر أمرهن ، و { مهاجرات } نصب على الحال ، { فامتحنوهن } معناه : جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهن . واختلف الناس في هذا الامتحان كيف هو ، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة : كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها ولا لجريرة جرت ولا لسبب من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة . قال ابن عباس : الامتحان أن تطلب بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلت ذلك لم ترد ، فقال فريق منهم عائشة أم المؤمنين : الامتحان هو أن تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذا من ترك الزنا والسرقة والبهتان والعصيان ، فإذا أقرت بذلك فهو امتحان ، وقيل : إن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة وفي كتاب الثعلبي أنها نزلت في سبيعة بنت الحارث{[11050]} ، وقوله تعالى : { الله أعلم بإيمانهم } إشارة إلى الاسترابة ببعضهن وحض على امتحانهن ، وذكر تعالى العلة في أن لا يرد النساء إلى الكفار وهي امتناع الوطء وحرمته ، وقرأ طلحة : «لا هن يحللن لهم » .


[11050]:في "أسد الغابة" أن اسمها "سعيدة بنت الحارث الأسلمية"، راجع الجزء الخامس ص745 منه.