ثم بين - سبحانه - النهاية السيئة لأقوام آخرين فقال : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ . فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } .
وفرعون : هو الذى قال لقومه - من بين ما قال - أنا ربكم الأعلى . . . وقد أرسل الله - تعالى - إليه نبيه موسى - عليه السلام - ولكنه أعرض عن دعوته . . وكانت نهايته الغرق .
والمراد بمن قبله : الأقوام الذين سبقوه فى الكفر ، كقوم نوح وإبراهيم - عليهما السلام - .
والمراد بالمؤتفكات : قرى قوم لوط - عليه السلام - التى اقتلعها جبريل - عليه السلام - ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها ، مأخوذ من ائتفك الشئ إذا انقلب رأسا على عقب .
قال - تعالى - { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } والمراد بالمؤتفكات هنا : سكانها وهم قوم لوط الذين أتوا بفاحشة ما سبقهم إليها أحد من العالمين .
وخصوا بالذكر ، لشهرة جريمتهم وبشاعتها وشناعتها . . ولمرور أهل مكة على قراهم وهم فى طريقهم إلى الشام للتجارة ، كما قال - تعالى - : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ . وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى : وبعد أن أهلكنا أقوام عاد وثمود . . جاء فرعون ، وجاء أقوام آخرون قبله ، وجاء قوم لوط ، وكانوا جميعا كافرين برسلنا ، ومعرضين عن دعوة الحق ومرتكبين للفعلات الخاطئة ، والفواحش المنكرة .
ثم قال تعالى : { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ } قُرئ بكسر القاف ، أي : ومن عنده في زمانه من أتباعه من كفار القبط . وقرأ آخرون بفتحها ، أي : ومن قبله من الأمم المشبهين له .
وقوله : { والمؤتفكات } وهم المكذبون بالرسل . { بالخاطئة } أي بالفعلة الخاطئة ، وهي التكذيب بما أنزل الله .
قال الربيع : { بالخاطئة } أي : بالمعصية وقال مجاهد : بالخطايا ؛ ولهذا قال : تعالى { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ }
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والناس : «من قَبْله » بفتح القاف وسكون الباء أي الأمم الكافرة التي كانت قبله ، ويؤيد ذلك ذكره قصة نوح في طغيان الماء لأن قوله : { من قبله } ، قد تضمنه فحسن اقتضاب أمرهم بعد ذلك دون تصريح . وقال أبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبان والحسن بخلاف عنه وأبو رجاء والجحدري وطلحة : «ومن قِبَله » ، بكسر القاف وفتح الباء أي أجناده وأهل طاعته ويؤيد ذلك أن في مصحف أبيّ بن كعب : «وجاء فرعون ومن معه » ، وفي حرف أبي موسى : «ومن تلقاءه » . وقرأ طلحة بن مصرف : «ومن حوله » . وقبل الإنسان : ما يليه في المكان وكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة عندي وفي ذمتي وما يليني بأي وجه وليني . و : { المؤتفكات } قرى قوم لوط ، وكانت أربعاً فيما روي ، وائتفكت : قلبت وصرفت عاليها سافلها فائتفكت هي فهي مؤتفكة ، وقرأ الحسن هنا : «والمؤتفكة » على الإفراد ، و { الخاطئة } : إما أن تكون صفة لمحذوف كأنه قال بالفعل الخاطئة ، وإما أن يريد المصدر ، أي بالخطأ في كفرهم وعصيانهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجاء فرعون ومن قِبَلَه} يعني ومن معه {والمؤتفكات} يعنى والمكذبات {بالخاطئة} يعنى قريات لوط الأربعة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَجاءَ فِرْعَوْنُ" مصر. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "وَمَنْ قَبْلَهُ"؛ فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة ومكة خلا الكسائيّ: "وَمَنْ قَبْلَهُ" بفتح القاف وسكون الباء، بمعنى: وجاء من قبل فرعون من الأمم المكذبة بآيات الله كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط بالخطيئة. وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة والكسائي: «وَمَنْ قِبَلَه» بكسر القاف وفتح الباء، بمعنى: وجاء مع فرعون من أهل بلده مصر من القبط.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
"وَالمُؤْتَفِكاتُ بالخاطِئَةِ ": والقرى التي ائتفكت بأهلها فصار عاليها سافلها. "بالخاطِئةِ" يعني بالخطيئة. وكانت خطيئتها: إتيانها الذكران في أدبارهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {والمؤتفكات بالخاطئة} قيل: قريات لوط ائتفكت على أهلها أي انقلبت عليهم بما عصت رسلها،
وقيل: المؤتفك الذي يأتفك من الصدق إلى الكذب، ومن الحق إلى الباطل، ومن العدل إلى الجور...
فمن قرأ: ومن قِبَله بحفض القاف، كان قوله. {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم} واقعا كله على العصيان لموسى عليه السلام، والمراد منه {والمؤتفكات} كل من ائتفك من الحق إلى الباطل دون أهل قريات لوط لأنهم كانوا قبل زمان موسى بكثير.
ومن قرأ: ومن قَبْله -بنصب القاف- كان قوله: {فعصوا رسول ربهم} واقعا على رسول كل فريق، كأنه قال: أي عصت كل أمة رسولها. وعلى هذا يجوز أن يكون المراد من {والمؤتفكات} قوم لوط...
{بالخاطئة} أي بالخطايا والشرك. وذكر أبو معاذ عن مجاهد في تفسير الخاطئة الشرك والكفر،
{وجاء فرعون} بالخاطئة، فيكون المجيء مصروفا إلى الخطايا، وهذا التأويل أملك بظاهر الآية لأنه قال: {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة} أي جاؤوا بالخطايا...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{والمؤتفِكاتُ بالخاطئة} في المؤتفكات قولان:
أحدهما: أنها المقلوبات بالخسف.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقوله: (بالخاطئة) أي: بالخطأ العظيم، أي: بالذنب العظيم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والناس: «من قَبْله» بفتح القاف وسكون الباء أي الأمم الكافرة التي كانت قبله، ويؤيد ذلك ذكره قصة نوح في طغيان الماء لأن قوله: {من قبله}، قد تضمنه فحسن اقتضاب أمرهم بعد ذلك دون تصريح. وقال أبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبان والحسن بخلاف عنه وأبو رجاء والجحدري وطلحة: «ومن قِبَله»، بكسر القاف وفتح الباء أي أجناده وأهل طاعته ويؤيد ذلك أن في مصحف أبيّ بن كعب: «وجاء فرعون ومن معه»،.. وفي حرف أبي موسى: «ومن تلقاءه». وقرأ طلحة بن مصرف: «ومن حوله».
وقبل الإنسان: ما يليه في المكان وكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة عندي وفي ذمتي وما يليني بأي وجه وليني...
و {الخاطئة}: إما أن تكون صفة لمحذوف كأنه قال بالفعَل الخاطئة، وإما أن يريد المصدر، أي بالخطأ في كفرهم وعصيانهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر تعالى عمن أهلك بالريح ومن أهلك بما سببه الريح تسبيباً قريباً بغير واسطة، وكان ذلك كله -لخروجه عن العادة- راداً على أهل الطبائع، أخبر بمن أهلك مما سببته الريح من الماء بواسطة السحاب، وكانت سبب تطابقه عليهم مع أن كفرهم بالتعطيل الذي هو أنحس أنواع الكفر للقول بالطبيعة التي تتضمن الإنكار للبعث، وكان إغراقهم بما يكذب معتقدهم لخروجه عن العادة، فقال منبهاً على قوة كفرهم بالمجيء: {وجاء} أي أتى إتياناً عالياً شديداً {فرعون} أي الذي ملكناه على طائفة من الأرض فعتى وتجبر وادعى الإلهية ناسياً هيبتنا وقدرتنا بنقمتنا وأنكر الصانع وقال بالطبائع {ومن قِبَله} أي في جهته وفي حيزه وما يليه وفي السير بسيرته من العلو في الأرض بغير الحق والعتو في الكفر، وهو ظرف مكان، هكذا على قراءة البصريين والكسائي بكسر الكاف وفتح الموحدة، فعم ذلك كل من كان كافراً عاتياً من قبله ومن بعده، وهو معنى قراءة الباقين بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة على أنه ظرف يقابل "بعد " بزيادة. ولما كان قوم لوط عليه السلام قد جمعوا أنواعاً من الفسوق لم يشاركهم فيها أحد، فاشتمل عذابهم على ما لم يكن مثله عذاب، فكان كل من فعلهم الذي لم يسبقهم به أحد من العالمين وعذابهم الذي ما كان مثله قبل ولا بعد، راداً على أهل الطبائع، نص عليهم من بين من دخل فيمن قبله على القراءتين فقال: {والمؤتفكات} أي أهل المدائن المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلاً لما حصل لأهلها من الانقلاب حتى صاروا إياه واتبعت حجارة الكبريت وخسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله وهي قرى قوم لوط عليه السلام.
{بالخاطئة} أي الخطأ أو الأفعال ذات الخطأ التي تتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق والعناد والطغيان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} وقد جُمع في الذكر هنا عدةُ أمم تقدمت قبل بعثة موسى عليه السلام إجمالاً وتصريحاً، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكراً عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم.
وفي عطف هؤلاء على ثمود وعاد في سياق ذكر التكذيب بالقارعة إيماء إلى أنهم تشابهوا في التكذيب بالقارعة كما تشابهوا في المجيء بالخاطئة وعصيان رسل ربّهم.
والمراد بفرعون فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه السلام، وإنما أسند الخِطْء إليه، فهو المؤاخذ بهذا العصيان، وتبعه القبط امتثالاً لأمره وكذبوا موسى وأعرضوا عن دعوته.
وشمل قوله: {ومَن قبله} أمَماً كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم.
و {المؤتفكات}: قُرى لوط، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط وخصوا بالذكر لشهرة جريمتهم، ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قُراهم في طريقهم إلى الشام، قال تعالى: {وإنكم لتمرُّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138] وقال: {ولقد أتوا على القرية التي أُمْطِرت مطَر السوء أفلم يكونوا يرونها} [الفرقان: 40].