ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصارح المشركين بأن الله وحده هو الحكم الحق ، وإن كتابه هو الآية الكبرى الدالة على صدقه فيما يبلغه عنه فقال - تعالى- : { أَفَغَيْرَ الله . . . . } .
روى أن مشركى مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واجعل بيننا حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما فى كتابهم من أمرك فنزل قوله - تعالى - { أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً } الآية .
وقوله : { أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً } كلام مستأنف على إرادة القول ، والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام .
والحكم - بفتحتين - وهو من يتحاكم إليه الناس ويرضون بحكمه ، وقالوا : إنه أبلغ من الحاكم " وأدل على الرسوخ ، كما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ، أأميل إلى زخارف الشياطين ، فأطلب معبودا سوى الله - تعالى - ليحكم بينى وبينكم ، ويفصل المحق منها من المبطل .
وأسند صلى الله عليه وسلم الابتغاء لنفسه لا إلى المشركين ، لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم : إجعل بيننا وبينك حكما .
و ( غير ) مفعول ل { أَبْتَغِي } و { حَكَماً } إما أن يكون حالا لغير أو تمييزا له . وجملة { وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً } حالية مؤكدة للإنكار أى : أفغير الله أطلب من يحكم بينى وبينكم ، والحال أنه - سبحانه - هو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، أى مبينا فيه الحق والباطل ، والحلال والحرام ، والخير والشر ، وغير ذلك من الأحكام التى أنتم فى حاجة إليها فى دينكم ودنياكم ، وأسند الإنزال إليهم لاستمالتهم نحو المنزل واستدعائهم إلى قبول حكمه ، لأن من نزل الشىء من أجله ، من الواجب عليه أن يتقبل حكمه .
ثم ساق - سبحانه - دليلا آخر على أن القرآن حق فقال : { والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق } .
أى : والذين آتيناهم الكتاب أى التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن منزل عليك من ربك بالحق . لأنهم يجدون فى كتبهم البشارات التى تبشر بك ، ولأن هذ القرآن الذى أنزله الله عليك مصدق لكتبهم ومهيمن عليها .
فهذه الجملة الكريمة تقرير لكون القرآن منزلا من عند الله ، لأن الذين وثق بهم المشركون من علما أهل الكتاب عالمون بحقيقته وأنه منزل من عند الله .
وقوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } أى : فلا تكونن من الشاكين فى أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق ، لأن عدم اعتراف بعضهم بذلك مرده إلى الحسد والجحود ، وهذا النهى إنما هو زيادة فى التوكيد ، وتثبيت لليقين ، كى لا يجول فى خاطره طائف من التردد فى هذا اليقين .
قال ابن كثير : وهذا كقوله - تعالى - { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين }
قال : وهذا شرط ، والشرط لا يتقضى وقوعه ، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أشك ولا أسأل " .
وقيل : الخطاب لكل من يتأتى له الخطاب على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه فلا ينبغى أن يشك فى ذلك أحد .
وقيل : الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمقصود أمته ، لأنه صلى الله عليه وسلم حاشاه من الشك .
يقول [ الله ]{[11098]} تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } أي : بيني وبينكم ، { وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا } أي : مبينا ، { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } أي : من اليهود والنصارى ، { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } ، أي : بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين ، { فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } كقوله { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ يونس : 94 ] ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي وقوعه ؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أشك ولا أسأل " .
{ أفغير الله أبتغي حكما } على إرادة القول أي : قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل ، و " غير " مفعول { أبتغي } و{ حكما } حال منه ويحتمل عكسه ، و{ حكما } أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل . { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } القرآن المعجز . { مفصّلا } مبينا فيه الحق والباطل بحيث ينفي التخليط والالتباس . وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات . { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } تأييد لدلالة الإعجاز على أن القرآن حق منزل من عند الله سبحانه وتعالى ، يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يمارس كتبه ولم يخالط علماءهم ، وإنما وصف جميعهم بالعلم لأن أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل . وقيل المراد مؤمنون أهل الكتاب . وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم { منزل } بالتشديد . { فلا تكونن من الممترين } في أنهم يعلمون ذلك ، أو في أنه منزل لجحود أكثرهم وكفرهم به ، فيكون من باب التهييج كقوله تعالى : { ولا تكونن من المشركين } أو خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لخطاب الأمة . وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة لما تعاضدت على صحته فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.