وإلى هنا يكون هود - عليه - السلام - قد رد على قومه رداً مقنعاً حكيما ، كان المتوقع من ورائه أن يستجيبوا له ، وأن يقبلوا على دعوته ، ولكنهم لسوء تفكيرهم وانطماس بصيرتهم ، أخذتهم العزة بالإثم فماذا قالوا لنبيهم ومرشدهم ؟
{ قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أى : قالوا له على سبيل الإنكار والاستهزاء : أجئتنا يا هود لأجل أن نعبد الله وحده ، ونترك ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام إن هذا لن يكون منا أبداً فأتنا بما تعدنا به من العذاب إن كنت من الصادقين فيما تخبر به .
وننظر في هذا الرد من قوم هود فنراه طافحا بالتهور والتحدى والاستهزاء واستعجال العذاب .
حتى لكأن هودا - عليه السلام - يدعوهم إلى منكر لا يطيقون سماعه ولا يصبرون على الجدل فيه ! !
أليس هو يدعوهم إلى وحدانية الله وإفراده بالعبادة وترك ما كان يعبد آباؤهم ، وهذا في زعمهم أمر منكر لا يطيقون الصبر عليه .
وهكذا يستحوذ الشيطان على قلوب بعض الناس وتفكيرهم فيصور لهم الحسنات في صورة سيئات ، والسيئات في صورة حسنات .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى المجىء في قوله : { أَجِئْتَنَا } ، قلت فيه أوجه : أن يكون لهود - عليه السلام - مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم .
وأن يريدوا به الاستهزاء ، لأنهم كانوا يعتقدون أن الله - تعالى - لا يرسل إلا الملائكة ، فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجىء الملك . وأنهم لا يريدون حقيقة المجىء . ولكن التعريض بذلك والقصد كما يقال : ذهب يشتمنى ولا يراد حقيقة الذهاب ، كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكليف ذلك " .
وقولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } يدل على أنه كان يتوعدهم بالعذاب من الله . إذا استمروا على شركهم ، ويدل - أيضا - على تصميمهم على الكفر ، واحتقارهم لأمر هود - عليه السلام - واستعجالهم إياه بالعقوبة على سبيل التحدى ، لأنهم كانوا يتوهمون أن العقوبة لن تقع عليهم أبداً .
ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر . . وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم ، واختصروا الجدل ، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح ، ويهزأ بالإنذار :
( قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) . . لكأنما كان يدعوهم إلى أمر منكر لا يطيقون الاستماع إليه ، ولا يصبرون على النظر فيه :
( أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ ) ؛
إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول . هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة : حرية التدبر والنظر ، وحرية التفكير والاعتقاد . ويدعه عبداً للعادة والتقليد ، وعبداً للعرف والمألوف ، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله ، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور . .
وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق ، بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد ؛ وقالوا لنبيهم الناصح الأمين :
{ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكا في التقليد وحبا لما ألفوه ، ومعنى المجيء في { أجئتنا } أما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو من السماء على التهكم ، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني . { فائتنا بما تعدنا } من العذاب المدلول عليه بقوله { أفلا تتقون } . { إن كنت من الصادقين } فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.