ثم مدحت السورة الكريمة القرآن الكريم ، وساقت المزيد من التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - : { إِنَّ هذا القرآن . . . } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - سبحانه - لما تمم الكلام فى إثبات المبدأ والمعاد . ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنبوة ، ولما كانت الدلالة الكبرى فى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن ، لا جرم بين الله - تعالى - أولا كونه معجزة . . .
أى : إن هذا القرآن من معجزاته الدالة على أنه من عند الله - تعالى - ، أنه يقص على بنى إسرائيل ، الذين هم حملة التوراة والإنجيل ، أكثر الأشياء التى اختلفوا فيها ، ويبين لهم وجه الحق والصواب فيما اختلفوا فيه .
ومن بين ما اختلف فيه بنو إسرائيل : اختلافهم فى شأن عيسى - عليه السلام - ، فاليهود كفروا به ، وقالوا على أمه ما قالوا من الكذب والبهتان ، والنصارى قالوا فيه إنه الله ، أو هو ابن الله ، فجاء القرآن ليبين لهم القول الحق فى شأن عيسى - عليه السلام - فقال : من بين ما قاله : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ . . } وقال - سبحانه - : { يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } للإشارة إلى أن القرآن ترك أشياء اختلفوا فيها دون أن يحكيها ، لأنه لا يتعلق بذكرها غرض هام يستدعى الحديث عنها ، ولأن فى عدم ذكرها سترا لهم ، عما وقعوا فيه من أخطاء . . .
وبمناسبة الحديث عن علم الله المطلق يذكر ما ورد في القرآن من فصل الخطاب فيما اختلف عليه بنو إسرائيل ، بوصفه طرفا من علم الله المستيقن ، ونموذجا من فضل الله وقضائه بين المختلفين . ليكون هذا تعزية لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وليدعهم لله يفصل بينه وبينهم بقضائه الأخير :
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين . إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم . فتوكل على الله إنك على الحق المبين . إنك لا تسمع الموتي ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون . .
ولقد اختلف النصارى في المسيح - عليه السلام - وفي أمه مريم .
قالت جماعة : إن المسيح إنسان محض ، وقالت جماعة : إن الأب والإبن وروح القدس إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس . فالله بزعمهم مركب من أقانيم ثلاثة ، الأب والابن وروح القدس [ والإبن هو عيسى ] فانحدر الله الذي هو الأب في صورة روح القدس وتجسد في مريم إنسانا وولد منها في صورة يسوع ! وجماعة قالت : إن الابن ليس أزليا كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم ، ولذلك هو دون الأب وخاضع له ! وجماعة أنكروا كون روح القدس أقنوما ! وقرر مجمع نيقية سنة 325 ميلادية ، ومجمع القسطنطينية سنة 381 بأن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت ، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب وأن الروح القدس منبثق من الأب . وقرر مجمع طليطلة سنة 589 بأن روح القدس منبثق من الابن أيضا . فاختلفت الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وظلتا مختلفتين . . . فجاء القرآن الكريم يقول كلمة الفصل بين هؤلاء جميعا . وقال عن المسيح : إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه وإنه بشر . . ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ) . وكان هذا فصل الخطاب فيما كانوا فيه يختلفون .
واختلفوا في مسألة صلبه مثل هذا الاختلاف . منهم من قال : إنه صلب حتى مات ودفن ثم قام من قبره بعد ثلاثة أيام وارتفع إلى السماء . ومنهم من قال : إن يهوذا أحد حوارييه الذي خانه ودل عليه ألقي عليه شبه المسيح وصلب . ومنهم من قال : ألقي شبهه على الحواري سيمون وأخذ به . . وقص القرآن الكريم الخبر اليقين فقال : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم )وقال : ( يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك . . )وكانت كلمة الفصل في ذلك الخلاف .
ومن قبل حرف اليهود التوراة وعدلوا تشريعاتها الإلهية ؛ فجاء القرآن الكريم يثبت الأصل الذي أنزله الله : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ) . .
وحدثهم حديث الصدق عن تاريخهم وأنبيائهم ، مجردا من الأساطير الكثيرة التي اختلفت فيها رواياتهم ، مطهرا من الأقذار التي ألصقتها هذه الروايات بالأنبياء ، والتي لم يكد نبي من أنبياء بني إسرائيل يخرج منها نظيفا ! . . إبراهيم - بزعمهم - قدم امرأته لأبيمالك ملك الفلسطينيين ، وإلى فرعون ملك مصر باسم أنها أخته لعله ينال بسببها نعمة في أعينهما ! ويعقوب الذي هو إسرائيل أخذ بركة جده إبراهيم من والده إسحاق بطريق السرقة والحيلة والكذب ؛ وكانت بزعمهم هذه البركة لأخيه الأكبر عيصو ! ولوط - بزعمهم - أسكرته بنتاه كل منهما ليلة ليضطجع معها لتنجب منه كي لا يذهب مال أبيها إذ لم يكن له وارث ذكر . وكان ما أرادتا ! وداود رأى من سطوح قصره امرأة جميلة عرف أنها زوجة أحد جنده ، فأرسل هذا الجندي إلى المهالك ليفوز - بزعمهم - بامرأته ! وسليمان مال إلى عبادة [ بغل ] بزعمهم . مجاراة لإحدى نسائه التي كان يعشقها ولا يملك معارضتها !
وقد جاء القرآن فطهر صفحات هؤلاء الرسل الكرام مما لوثتهم به الأساطير الإسرائيلية التي أضافوها إلى التوراة المنزلة ، كما صحح تلك الأساطير عن عيسى ابن مريم - عليه السلام .
وهذا القرآن المهيمن على الكتب قبله الذي يفصل في خلافات القوم فيها ، ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه هو الذي يجادل فيه المشركون ، وهو الحكم الفصل بين المتجادلين !
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز ، وما اشتمل عليه من الهدى والبينات والفرقان{[22148]} : إنه يقص على بني إسرائيل - وهم حملة التوراة والإنجيل - { أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ، كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه ، فاليهود افتروا ، والنصارى غَلَوا ، فجاء [ إليهم ]{[22149]} القرآن بالقول الوسط الحق العدل : أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام ، عليه [ أفضل ]{[22150]} الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } [ مريم : 34 ] .
وقوله : إنّ هَذَا القُرآنَ يَقُصّ عَلى بَنِي إسْرَائِيلَ أكْثَرَ الّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول تعالى ذكره : إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك يا محمد يقصّ على بني إسرائيل الحقّ في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها ، وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى ، فقالت اليهود فيه ما قالت ، وقالت النصارى فيه ما قالت ، وتبرأ لاختلافهم فيه هؤلاء من هؤلاء ، وهؤلاء من هؤلاء ، وغير ذلك من الأمور التي اختلفوا فيها ، فقال جلّ ثناؤه لهم : إن هذا القرآن يقصّ عليكم الحقّ فيما اختلفتم فيه فاتبعوه ، وأقرّوا لما فيه ، فإنه يقصّ عليكم بالحقّ ، ويهديكم إلى سبيل الرشاد .
إبطال لقول الذين كفروا { إن هذا إلا أساطير الأولين } [ النمل : 68 ] . وله مناسبة بقوله { وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين } [ النمل : 75 ] ، فإن القرآن وحي من عند الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فكل ما فيه فهو من آثار علم الله تعالى فإذا أراد الله تعليم المسلمين شيئاً مما يشتمل عليه القرآن فهو العلم الحق إذا بلغت الأفهام إلى إدراك المراد منه على حسب مراتب الدلالة التي أصولها في علم العربية وفي علم أصول الفقه .
ومن ذلك ما اشتمل عليه القرآن من تحقيق أمور الشرائع الماضية والأمم الغابرة مما خبطت فيه كتب بني إسرائيل خبطاً من جراء ما طرأ على كتبهم من التشتت والتلاشي وسوء النقل من لغة إلى لغة في عصور انحطاط الأمة الإسرائيلية ، ولما في القرآن من الأصول الصريحة في الإلهيات مما يكشف سوء تأويل بني إسرائيل لكلمات كتابهم في متشابه التجسيم ونحوه ، فإنك لا تجد في التوراة ما يساوي قوله تعالى { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] . فالمعنى : نفي أن يكون أساطير الأولين بإثبات أنه تعليم للمؤمنين ، وتعليم لأهل الكتاب . وإنما قص عليهم أكثر ما اختلفوا وهو ما في بيان الحق منه نفع للمسلمين ، وأعرض عما دون ذلك . فموقع هذه الآية استكمال نواحي هدي القرآن للأمم فإن السورة افتتحت بأنه هدى وبشرى للمؤمنين ، وأن المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يعمهون في ضلالهم فلم ينتفعوا بهديه . فاستكملت هذه الآية ما جاء به من هدي بني إسرائيل لما يهم مما اختلفوا فيه .
والتأكيد ب { إن } مثل ما تقدم في نظائره . وأكثر الذي يختلفون فيه هو ما جاء في القرآن من إبطال قولهم فيما يقتضي إرشادهم إلى الحق أن يبين لهم ، وغير الأكثر ما لا مصلحة في بيانه لهم .
ومن مناسبة التنبيه على أن القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر ما هم فيه مختلفون ، أن ما قصه مما جرى بين ملكة سبأ مع سليمان كان فيه مما يخالف ما في كتاب الملوك الأول وكتاب الأيام الثاني ففي ذينك الكتابين أن ملكة سبأ تحملت وجاءت إلى أورشليم من تلقاء نفسها محبة منها في الاطلاع على ما بلغ مسامعها من عظمة ملك سليمان وحكمته ، وأنها بعد ضيافتها عند سليمان قفلت إلى مملكتها . وليس مما يصح في حكم العقل وشواهد التاريخ في تلك العصور أن ملكة عظيمة كملكة سبأ تعمد إلى الارتحال عن بلدها وتدخل بلد ملك آخر غير هائبة ، لولا أنها كانت مضطرة إلى ذلك بسياسة ارتكاب أخف الضرين إذ كان سليمان قد ألزمها بالدخول في دائرة نفوذ ملكه ، فكان حضورها لديه استسلاماً واعترافاً له بالسيادة بعد أن تنصلت من ذلك بتوجيه الهدية وبعد أن رأت العزم من سليمان على وجوب امتثال أمره .
ومن العجيب إهمال كُتّاب اليهود دعوة سليمان بلقيس إلى عقيدة التوحيد وهل يظن بنبي أن يقر الشرك على منتحليه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنّ هَذَا القُرآنَ يَقُصّ عَلى بَنِي إسْرَائِيلَ أكْثَرَ الّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك يا محمد يقصّ على بني إسرائيل الحقّ في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها، وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى، فقالت اليهود فيه ما قالت، وقالت النصارى فيه ما قالت، وتبرأ لاختلافهم فيه هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، وغير ذلك من الأمور التي اختلفوا فيها، فقال جلّ ثناؤه لهم: إن هذا القرآن يقصّ عليكم الحقّ فيما اختلفتم فيه فاتبعوه، وأقرّوا لما فيه، فإنه يقصّ عليكم بالحقّ، ويهديكم إلى سبيل الرشاد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تأويله والله أعلم، أن هذا القرآن يبين لهم الحكم في أكثر ما يختلفون فيه، أو يبين لهم الحق في أكثر ما يختلفون فيه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم نبه تعالى على {إن هذا القرآن} أخبر {بني إسرائيل} بأكثر الأشياء التي كان بينهم الخلاف في صفتها فجاءت في القرآن على وجهها.
اعلم أنه سبحانه لما تمم الكلام في إثبات المبدإ والمعاد، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنبوة، ولما كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن، لا جرم بين الله تعالى أولا كونه معجزة من وجوه؛
أحدها: أن الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة والإنجيل مع العلم بأنه عليه الصلاة والسلام كان أميا، وأنه لم يخالط أحدا من العلماء ولم يشتغل قط بالاستفادة والتعلم، فإذن لا يكون ذلك إلا من قبل الله تعالى، واختلفوا؛ فقال بعضهم: أراد به ما اختلفوا فيه وتباينوا، وقال آخرون: أراد به ما حرفه بعضهم، وقال بعضهم بل أراد به أخبار الأنبياء، والأول أقرب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن هذا القرآن} أي الآتي به هذا النبي الأمي الذي لم يعرف قبله علماً ولا خالط عالماً {يقص} أي يتابع الإخبار ويتلو شيئاً فشيئاً على سبيل القطع الذي لا تردد فيه، من غير زيادة ولا نقص {على بني إسرائيل} أي [الذين] أخبارهم مضبوطة في كتبهم لا يعرف بعضها إلا قليل من حذاق [أحبارهم] {أكثر الذي هم} أي خاصة لكونه من خاص [أخبارهم] التي لا علم لغيرهم بها {فيه يختلفون} أي من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه، كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أن حده الرجم، وقصة عزير والمسيح، وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من توراتهم، فصح بتحقيقه على لسان من لم يلم بعلم قط أنه من عند الله، وصح أن الله تعالى يعلم كل شيء إذ لا خصوصية لهذا دون غيره بالنسبة إلى علمه سبحانه.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
أي فهو مصدق لما بين يديه، ومهيمن عليه. يقص القصص الحق، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق. فالمعول من أنبائهم عليه، ومرد ما اختلفوا فيه إليه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا خبر عن هيمنة القرآن على الكتب السابقة وتفصيله وتوضيحه، لما كان فيها قد وقع فيه اشتباه واختلاف عند بني إسرائيل فقصه هذا القرآن قصا زال به الإشكال وبين به الصواب من المسائل المختلف فيها. وإذا كان بهذه المثابة من الجلالة والوضوح وإزالة كل خلاف وفصل كل مشكل كان أعظم نعم الله على العباد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بمناسبة الحديث عن علم الله المطلق يذكر ما ورد في القرآن من فصل الخطاب فيما اختلف عليه بنو إسرائيل، بوصفه طرفا من علم الله المستيقن، ونموذجا من فضل الله وقضائه بين المختلفين. ليكون هذا تعزية لرسوله [صلى الله عليه وسلم] وليدعهم لله يفصل بينه وبينهم بقضائه الأخير... وحدثهم حديث الصدق عن تاريخهم وأنبيائهم، مجردا من الأساطير الكثيرة التي اختلفت فيها رواياتهم، مطهرا من الأقذار التي ألصقتها هذه الروايات بالأنبياء، والتي لم يكد نبي من أنبياء بني إسرائيل يخرج منها نظيفا!... وقد جاء القرآن فطهر صفحات هؤلاء الرسل الكرام مما لوثتهم به الأساطير الإسرائيلية التي أضافوها إلى التوراة المنزلة، كما صحح تلك الأساطير عن عيسى ابن مريم -عليه السلام. وهذا القرآن المهيمن على الكتب قبله الذي يفصل في خلافات القوم فيها، ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه هو الذي يجادل فيه المشركون، وهو الحكم الفصل بين المتجادلين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إبطال لقول الذين كفروا {إن هذا إلا أساطير الأولين} [النمل: 68]. وله مناسبة بقوله {وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} [النمل: 75]، فإن القرآن وحي من عند الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فكل ما فيه فهو من آثار علم الله تعالى فإذا أراد الله تعليم المسلمين شيئاً مما يشتمل عليه القرآن فهو العلم الحق إذا بلغت الأفهام إلى إدراك المراد منه على حسب مراتب الدلالة التي أصولها في علم العربية وفي علم أصول الفقه. ومن ذلك ما اشتمل عليه القرآن من تحقيق أمور الشرائع الماضية والأمم الغابرة مما خبطت فيه كتب بني إسرائيل خبطاً من جراء ما طرأ على كتبهم من التشتت والتلاشي وسوء النقل من لغة إلى لغة في عصور انحطاط الأمة الإسرائيلية، ولما في القرآن من الأصول الصريحة في الإلهيات مما يكشف سوء تأويل بني إسرائيل لكلمات كتابهم في متشابه التجسيم ونحوه، فإنك لا تجد في التوراة ما يساوي قوله تعالى {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]. فالمعنى: نفي أن يكون أساطير الأولين بإثبات أنه تعليم للمؤمنين، وتعليم لأهل الكتاب. وإنما قص عليهم أكثر ما اختلفوا وهو ما في بيان الحق منه نفع للمسلمين، وأعرض عما دون ذلك. فموقع هذه الآية استكمال نواحي هدي القرآن للأمم فإن السورة افتتحت بأنه هدى وبشرى للمؤمنين، وأن المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يعمهون في ضلالهم فلم ينتفعوا بهديه. فاستكملت هذه الآية ما جاء به من هدي بني إسرائيل لما يهم مما اختلفوا فيه. والتأكيد ب {إن} مثل ما تقدم في نظائره. وأكثر الذي يختلفون فيه هو ما جاء في القرآن من إبطال قولهم فيما يقتضي إرشادهم إلى الحق أن يبين لهم، وغير الأكثر ما لا مصلحة في بيانه لهم.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وتبدو الآيات كأنها منفصلة عن السياق، ولم نر المفسرين يذكرون شيئا في صدد ذلك، وكل ما قالوه أن الآيات تشير إلى ما كان من خلاف حول عيسى عليه السلام وغيره من الشؤون الدينية، والذي تبادر لنا أن يكون بعض كفار العرب سألوا أحد اليهود في مكة عن أمر الآخرة، فأجاب جوابا مبهما أو باعثا على الشك؛ لأنه لا يوجد في الأسفار نصوص صريحة عن الآخرة وحسابها وعقابها وثوابها كما جاء في القرآن، فأخذ الكفار يعلنون ذلك ويستندون إليه في مواقف الجدل والحجاج والإنكار في صدد الآخرة، وظنوا أنهم استحكموا النبي صلى الله عليه وسلم بالحجة؛ لأنه يقول لهم بلسان القرآن إنه مصدق لما قبله من الكتب؛ فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات بالرد عليهم، والإشارة إلى أن بني إسرائيل قد حاروا في فهم كثير من الحقائق والإشارة واختلفوا، وأن أمر الآخرة في جملة ذلك، وأن القرآن يحتوي الحقائق الصحيحة في كل أمر وفي المسائل التي حاروا فيها واختلفوا. وإذا صحّ هذا بدت الصلة والمناسبة قائمتين بين هذه الآيات والآيات السابقة. ونرجو أن يكون ذلك هو الصحيح؛ لأن ورود الآيات هنا بدون هذا التعليل يبدو مشكلا من وجهة النظم القرآني واتساق السياق. على كل حال فالآية خطيرة المغزى في حدّ ذاتها بتقريرها أن القرآن يحتوي الحقائق والحلول الصحيحة لمختلف الشؤون التي كان يختلف عليها بنو إسرائيل. وهناك آيات عديدة أخرى مكية ومدنية فيها إشارة إلى اختلافات النصارى أيضا بالإضافة إلى بني إسرائيل مثل آيات سورة السجدة [23 25] وفصلت [45] و الجاثية [16 17] المكية وآيات المائدة [13 19 48] المدنية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
آفاق القرآن ودوره ما هي آفاق هذا القرآن؟ وما هو دوره؟ وما هي طبيعته؟ إنه ليس كتاباً تجريدياً يتحدث عن الفكر في مجالات الفراغ، ويحلّق في آفاق الخيال، بل هو كتاب يرصد الواقع في الماضي والحاضر، لينفتح فيه على طبيعة المجتمعات التي يكثر فيها الخلاف وتتحرك فيها مواقع الصراع، ليعالج ذلك كله بأسلوبه المرتكز على الحكمة في الفكرة والمنهج، فيجد فيه كل مجتمع نفسه، ويحسّ بأنه يمثل صورته الحقيقية في كل مفرداته وأوضاعه، وهو في الوقت نفسه يخطط للطريق المستقيم الذي يصل بالناس إلى أهدافهم القويمة، ويوحي لهم بكل المعاني الخيّرة التي تفيض بالحب والرحمة والسعادة والطمأنينة. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} الذين يمثلون الامتداد التاريخي لمجتمع الرسالات {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من قضايا العقيدة والحياة. ولكن لا لتكون القصة سبيلاً للمتعة واللهو وملء الفراغ، كما يتحدث القصاصون عن التاريخ وحكاياته، بل لتكون منطلق حديث عن عمق الجذور الفكرية والروحية لتلك الخلافات وعما يمكن أن يصل إليه من النتائج الحاسمة في قضايا الحق والباطل، والخير والشرّ، والانحراف والاستقامة، وذلك من أجل تصحيح الخطأ، وتقويم الانحراف، لأنه يستهدف تثبيت القواعد الفكرية والأخلاقية التي جاءت بها الرسالات في حركة الحياة،...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد... أمّا في الآيات محل البحث فيقع الكلام على مسألة النبوّة، وحقّانيّة القرآن، ليكتمل بهما هذا البحث!. ومن جهة أُخرى فقد كان الكلام في الآيات السابقة عن علم الله الواسع غير المحدود، وفي الآيات محل البحث مزيد تفصيل في هذا الشأن. أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجهاً للمشركين، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم!...
وعلى كل حال فإنّ واحدة من مهامّ القرآن هي مواجهة الاختلافات المتولّدة من اختلاط الخرافات وحقائق التعليمات التي جاء بها الأنبياء... وكل نبي مسؤول أن يحسم الاختلافات الناشئة من التحريف والخلط بين الحقّ والباطل... وحيث أن هذا العبء لا يمكن أن ينهض به رجل أمي لم يسبق له أن يقرأ، وفي محيط جاهلي، فيتّضح أنّه مرسل من قبل الله!