التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (55)

وبعد أن شرح - سبحانه - أحوال المهلكين من شرار الكفرة ، شرع في بيان أحوال الباقين منهم ، وتفصيل أحكامها ، فقال - تعالى - : { إِنَّ شَرَّ الدواب . . إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } .

قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما وصف كل الكفار بقوله : { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله } أى : في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان :

الأولى : الكافر الذي يكون مستمراً على كفره مصرا عليه . .

الثانية : أن يكون ناقضا للعهد على الدوام . .

قال ابن عباس : هم بنو قريظة ، فإنهم نقضوا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر ، ثم قالوا : أخطأنا ، فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضا يوم الخندق . .

والدواب : جمع دابة . وهى كل ما يدب على الأرض قال - تعالى - { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } قال الجمل : وإطلاق الدابة على الإِنسان إطلاق حقيقى ، لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا . وفى الصباح " الداية كل حيوان في الأرض مميزاً وغير مميز " .

والمعنى : إن شر ، ما يدب على الأرض { عِندَ الله } أى : في حكمه وقضائه { الذين كَفَرُواْ } أى : الذين أصروا على الكفر ولجوا فيه .

وقد وصفهم - سبحانه - بأنهم شر الدواب لا شر الناس ، للإِشعار بأنهم بمعزل عما يتحلى به الناس من تعقل وتدبر للأمور ، لأن لفظ الدواب وإن كان يطلق على الناس ، إلا أنه عند إطلاقه عليهم يلقى ظلا خاصا يجعل العقول تتجه إلى أن هؤلاء الذين أطلق عليهم اللفظ هم إلى الدواب التي لا تعقل أقرب منهم إلى الآدميين العقلاء ، وفى وصفه - سبحانه - لهم بأنهم شر الدواب زيادة توبيخ لهم ، لأنهم ليسوا دوابا فحسب بل هم شرها وأخسها .

وقوله : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } تذييل جئ به على وجه الاعتراض بالبيان أى : أنهم - بسبب إصرارهم على الكفر - صار الإِيمان بعيدا عنهم ، وأنهم سواء أنذروا أو لم ينذروا مستمرون في الضلال والعناد .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (55)

55

( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ) . .

ولفظ ( الدواب ) وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض ، فيشمل الأناسي فيما يشمل ، إلا أنه - كما أسلفنا - يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين . . ظل البهيمة . . ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض ! وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان ! وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة !

وقد وردت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص . . قيل : إنهم بنو قريظة ، وقيل : إنهم بنو النضير . وقيل : إنهم بنو قينقاع . وقيل : إنهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين . . والنص والواقع التاريخي كلاهما يحتمل أن يكونوا هؤلاء جميعاً . فلقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله [ ص ] طائفة طائفة ، كما أنه قد تكرر نقض المشركين لعهودهم أيضاً . . والمهم أن نعلم أن هذه النصوص تتحدث عن حالة واقعة قبل بدر وبعدها ، إلى حين نزول هذه الآيات . ولكن الحكم الصادر فيها ، المصور لطبيعة الناقضين للعهد يصور حالة دائمة ، ويقرر صفة ثابتة . .

فهؤلاء الذين كفروا ولّجوا في الكفر ( فهم لا يؤمنون ) . . ففسدت بذلك فطرتهم ، وباتوا بذلك شر الدواب عند الله . هؤلاء الذين ينقضون كل عهد أبرموه ، فتجردوا بذلك من خصيصة إنسانية أخرى - خصيصة التقيد بالعهد - وانطلقوا من كل قيد ، كما تنطلق البهيمة ، لولا أن البهيمة مقيدة بضوابط فطرتها ، وهؤلاء لا ضابط لهم . فهم بذلك شر الدواب عند الله !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (55)

أخبر تعالى أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون ، الذين كلما عاهدوا عهدا نقضوه ، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه ، { وَهُمْ لا يَتَّقُونَ } أي : لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .

يقول تعالى ذكره : إن شرّ ما دبّ على الأرض عند الله الذين كفروا بربهم فجحدوا وحدانيته ، وعبدوا غيره . فهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول : فهم لا يصدقون رسل الله ولا يقرّون بوحيه وتنزيله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (55)

استئناف ابتدائي انتقل به من الكلام على عموم المشركين إلى ذكر كفّار آخرين هم الذين بينّهم بقوله : { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم } الآية . وهؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم على كفرهم ، ثم نقضوا عهدهم ، وهم مستمرّون على الكفر ، وإنّما وصَفَهم ب { شر الدواب } لأنّ دعوة الإسلام أظهر من دعوة الأديان السابقة ، ومعجزةَ الرسول صلى الله عليه وسلم أسطع ، ولأنّ الدلالة على أحَقّية الإسلام دلالة عقلية بيّنة ، فمَن يجحده فهو أشبَه بما لا عقلَ له ، وقد اندرج الفريقان من الكفّار في جنس { شر الدواب } .

وتقدّم آنفا الكلام على نظير قوله : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم } [ الأنفال : 22 ] الآية .

وتعريف المسند بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر عنهم بأنّهم شرّ الدوابّ .

والفاء في { فهم لا يؤمنون } عطفت صلة على صلة ، فأفادت أنّ الجملة الثانية من الصلة ، وأنّها تمام الصلة المقصودة للإيماء ، أي : الذين كفروا من قبل الإسلام فاستمر كفرهم فهم لا يؤمنون بعد سماع دعوة الإسلام . ولمّا كان هذا الوصف هو الذيّ جعلهم شرّ الدوابّ عند الله عطف هنا بالفاء للإشارة إلى أنّ سبب إجراء ذلك الحكم عليهم هو مجموع الوصفين ، وأتى بصلة { فهم لا يؤمنون } جملة إسمية ؛ لإفادة ثبوت عدم إيمانهم وأنّهم غير مرجو منهم الإيمان .

فإنّ تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي مع عدم إيلاء المسند إليه حرف النفي ، لقصد إفادة تقوية نفي الإيمان عنهم ، أي الذين ينتفي الإيمان منهم في المستقبل انتفاء قوياً فهم بعداء عنه أشدّ الابتعاد .

وليس التقديم هنا مفيداً للتخصيص ؛ لأنّ التخصيص لا أثر له في الصلة ، ولأنّ الأكثر في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي ، إذا لم يقع المسند إليه عقب حرف النفي ، أنْ لا يفيد تقديمه إلاّ التقّوي ، دون التخصيص ، وذلك هو الأكثر في القرآن كقوله تعالى : { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } [ البقرة : 272 ] إذ لا يراد وأنتم دُون غيركم لا تظلمون .