ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بهم إلى هذا العذاب المهين فقال : { ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ . ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } .
وقوله : { تَمْرَحُونَ } من المرح وهو التوسع فى الفرح مع الأشر والبطر .
أى : ذلك الذى نزل بكم من العذاب ، بسبب فرحكم وبطركم فى الأرض بالباطل ، وبسبب مرحكم وأشركم وغروركم فيها وحق عليكم أن يقال لكم بسبب ذلك : ادخلوا أبواب جهنم المفتوحة أمامكم ، حالة كونكم خالدين فيها خلودا أبديا ، فبئس { مَثْوَى } أى : مكان المتكبرين } عن قبول الحق جهنم .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بغَيرِ الحَقّ هذا الذي فعلنا اليوم بكم أيها القوم من تعذيبنا كم العذاب الذي أنتم فيه ، بفرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا ، بغير ما أذن لكم به من الباطل والمعاصي ، وبمرحكم فيها ، والمرح : هو الأشر والبطر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بغَيرِ الحَقّ إلى فَبئْسَ مَثْوَى المُتَكَبّرينَ قال : الفرح والمرح : الفخر والخُيَلاء ، والعمل في الأرض بالخطيئة ، وكان ذلك في الشرك ، وهو مثل قوله لقارون : إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ وذلك في الشرك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بغَيرِ الحَقّ وبما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ قال : تَبْطرون وتأشَرُون .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : تَمْرَحُونَ قال : تبطرون .
وقوله : { ذلكم بما كنتم تفرحون } تكملة القيل الذي يقال لهم حينَ إِذْ الإِغلالُ في أعناقهم . والإِشارة إلى ما هم فيه من العذاب . و ( مَا ) في الموضعين مصدرية ، أي ذلكم مسبب على فرحكم ومرحكم اللذين كانا لكم في الدنيا ، والأرض : مطلقة على الدنيا .
والفرح : المسرة ورضى الإِنسان على أحواله ، فهو انفعال نفساني . والمرح ما يَظهر على الفارح من الحركات في مشيه ونظره ومعاملته مع الناس وكلامه وتكبره فهو هيئة ظاهرية .
و { بِغَيْرِ الحَقِّ } يتنازعه كل من { تفرحون } و { تمرحون } أي تفرحون بما يسركم من الباطل وتزدهون بالباطل فمن آثار فرحهم بالباطل تطاولُهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المرح بالباطل استهزاؤهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، قال تعالى : { وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين } [ المطففين : 30 ، 31 ] . فالفرح كلما جاء منهياً عنه في القرآن فالمراد به هذا الصنف منه ، كقوله تعالى : { إذ قال له قومه لا تفرح إن اللَّه لا يحب الفرحين } [ القصص : 76 ] لا كلُّ فَرح ، فإن الله امتنّ على المؤمنين بالفرح في قوله : { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللَّه } [ الروم : 4 ، 5 ] . وبين { تفرحون وتمرحون } الجناس المحرَّف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلكم} السلاسل والأغلال والسحب.
{بما كنتم تفرحون في الأرض} يعني تبطرون من الخيلاء والكبرياء.
{بغير الحق وبما كنتم تمرحون} يعني تعصون في الأرض..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بغَيرِ الحَقّ" هذا الذي فعلنا اليوم بكم أيها القوم من تعذيبنا كم العذاب الذي أنتم فيه، بفرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا، بغير ما أذن لكم به من الباطل والمعاصي، وبمرحكم فيها، والمرح: هو الأشر والبطر.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق" هذا دليل على أنه قد يكون فرح بحق...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{بغير الحق} وهو الشرك والطغيان.
{وبما كنتم تمرحون} والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم جواب السؤال عن التعجب من هذا الضلال، رجع إلى خطاب الضلال فقال معظماً لما ذكر من جزائهم بأداة البعد وميم الجمع نصاً على تقريع كل منهم: {ذلكم} أي الجزاء العظيم المراتب، الصعب المراكب، الضخم المواكب.
{بما كنتم} أي دائماً {تفرحون} أي تبالغون في السرور وتستغرقون فيه وتضعفون عن حمله للإعراض عن العواقب.
ولما كانت الأرض سجناً، فهي في الحقيقة دار الأحزان، حسن قوله: {في الأرض} أي ففعلتم فيها ضد ما وضعت له، وزاد ذلك حسناً قوله: {بغير الحق} فأشعر أن السرور لا ينبغي إلا إذا كان مع كمال هذه الحقيقة، وهي الثبات دائماً للمفروح به، وذلك لا يكون إلا في الجنة.
{وبما} أي وبسبب ما {كنتم تمرحون} أي تبالغون في الفرح مع الأشر والبطر والنشاط الموجب الاختيال والتبختر والخفة بعدم احتمال الفرح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ذلكم بما كنتم تفرحون} تكملة القيل الذي يقال لهم حينَ إِذْ الإِغلالُ في أعناقهم. والإِشارة إلى ما هم فيه من العذاب.
و (مَا) في الموضعين مصدرية، أي ذلكم مسبب على فرحكم ومرحكم اللذين كانا لكم في الدنيا، والأرض: مطلقة على الدنيا.
والفرح: المسرة ورضى الإِنسان على أحواله، فهو انفعال نفساني.
والمرح ما يَظهر على الفارح من الحركات في مشيه ونظره ومعاملته مع الناس وكلامه وتكبره فهو هيئة ظاهرية.
و {بِغَيْرِ الحَقِّ} يتنازعه كل من {تفرحون} و {تمرحون} أي تفرحون بما يسركم من الباطل وتزدهون بالباطل فمن آثار فرحهم بالباطل تطاولُهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المرح بالباطل استهزاؤهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، قال تعالى: {وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين} [المطففين: 30، 31].
فالفرح كلما جاء منهياً عنه في القرآن فالمراد به هذا الصنف منه، كقوله تعالى: {إذ قال له قومه لا تفرح إن اللَّه لا يحب الفرحين} [القصص: 76] لا كلُّ فَرح، فإن الله امتنّ على المؤمنين بالفرح في قوله: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللَّه} [الروم: 4، 5]. وبين {تفرحون وتمرحون} الجناس المحرَّف.
{ذَلِكُمْ} إشارة إلى ما وقع بهم من العذاب بالأغلال والسلاسل والنار، سببه {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ}.
الفرح: انبساط النفس بما يسرُّها ويُسعدها، لكن الفرح الحقيقي أن تسعد وتسر بما يُعينها على غايتها الأصيلة، فهناك فرح بأيِّ شيء ربما كان بالمعصية، وفرح بحق هو أنْ تفرح بما يُعينك على غايتك، أما الشيء الذي لا يعينني على هذه الغاية، بل يصادمها، فهذه لذَّة عابرة تعقبها حسراتٌ ربما تفوق أضعاف اللذة التي حصلتْ من هذا الشيء.
واقرأ مثلاً في الفرح الحقيقي قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ..} [آل عمران: 169-170].
نعم هذا هو الفرح بحقٍّ، بل يتعدَّى الفرح للآخرين: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170] فهذا فرح يتعدَّاك إلى غيرك فرح حقيقي، لأنه يحقق الغاية الأصيلة في الوجود.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] هذا فرح بالفضل وبالرحمة من الله لا بعملهم، وهذا فرح مشروع.
ومن الفرح المشروع: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ..} [الرعد: 36] لأنه جاء مُصدِّقاً لما معهم ومُؤيداً لمنطقهم في الحق، وهذا تفرح به لأنه يُعينك على الغاية الأصيلة في الوجود.
ويقول تعالى: {الۤـمۤ * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ..} [الروم: 1-5] فكم فرح مشروع إذن؟ فرح الشهداء بفضل الله وبرحمته، وفرح الذين أُوتوا الكتاب برسول الله، وفرح المؤمنين بنصرة منهج السماء على منهج الأرض.
وما عدا الفرح المشروع فرح أحمق، ومنه قوله تعالى عن الكافرين: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا..} [التوبة: 50-51] يعني: ما أًصابنا من الله محسوب لنا لا علينا.
وقال: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
وقال تعالى أيضاً في الفرح غير المشروع أو الأحمق كما قلنا: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً..} [الأنعام: 44].
وقال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ..} [آل عمران: 188] يفرحون بأنهم آذوا المؤمنين وسخروا منهم {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].
وقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9-10].
وقال: {فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53].
وما دامت قد تعددت الأحزاب، وفَرِح كُلٌّ بما عنده، فهو فرح باطل غير مشروع.
وقال أيضاً: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76].
إذن: عندنا فرح مشروع في أربعة مواضع، وفي تسعة مواضع، فرح غير محمود وغير مشروع.
هنا يقول تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ..} [غافر: 75] هذا دليلٌ على أن هناك فرحاً بالحق وفرحاً بغير الحق {وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] المرح: هو المبالغة في الفرح والسَّيْر به في بَطَر وتفاخر وخيلاء.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هذه الأفراح المتزامنة مع الغرور والغفلة والشهوة، تبعد الإنسان بسرعة عن الله تبارك وتعالى وتمنعه من إدراك الحقيقة، فتكون الحقائق لديه غامضة والمقاييس معكوسة...