ثم بين - سبحانه - أن أمر البعث والحساب كائن لا ريب فيه فقال : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } .
أى : " إن ما توعدون من أمر القيامة والحساب ، والعقاب والثواب لواقع لا شك فيه ، وما أنتم بمعجزين ، أى : بجاعليه عاجزا عنكم ، غير قادر على إدراككم . من أعجزه بمعنى جعله عاجزا ، أو : بفائتين العذاب ، من أعجزه الأمر . إذا فاته . أى لا مهرب لكم من عذابنا بل هو مدرككم لا محالة .
وقوله تعالى : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون{[11243]} به من أمر المعاد كائن لا محالة ، { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : ولا تعجزون الله ، بل هو قادر على إعادتكم ، وإن صرتم ترابًا رفاتًا وعظامًا هو قادر لا يعجزه شيء .
وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا محمد بن حمير ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي سعيد الخدُرْي ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا بني آدم ، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى . والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين " {[11244]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ مَا تُوعَدُونَ لاَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمشركين به : أيها العادلون بالله الأوثان والأصنام ، إن الذي يوعدكم به ربكم من عقابه على إصراركم على كفركم واقع بكم وَما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ، يقول : لن تعجزوا ربكم هربا منه في الأرض فتفوتوه ، لأنكم حيث كنتم في قبضته ، وهو عليكم وعلى عقوبتكم بمعصيتكم إياه قادر ، يقول : فاحذروه ، وأنيبوا إلى طاعته قبل نزول البلاء بكم .
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : { إن يشأ يذهبكم } [ الأنعام : 133 ] فإنّ المشيئة تشتمل على حالين : حالِ ترك إهلاكهم ، وحالِ إيقاعه ، فأفادت هذه الجملة أنّ مشيئة الله تعلّقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب ، ولك أن تجعل الجملة استئنافاً بيانياً : جواباً عن أن يقول سائل من المشركين ، متوركاً بالوعيد : إذا كنّا قد أُمهلنا وأخِّر عنَّا الاستئصال فقد أُفلتنا من الوعيد ، ولعلّه يلقاه أقوام بعدنا ، فورد قوله : { إن ما توعدون لآت } مورد الجواب عن هذا السّؤال النّاشىء عن الكلام السّابق بتحقيق أنّ مَا أُوعد به المشركون ، واقع لا محالة وإنْ تأخّر .
والتّأكيد ب { أنّ } مناسب لمقام المتردّد الطالب ، وزيادة التّأكيد بلام الابتداء لأنَّهم متوغّلون في إنكار تحقّق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخارهم به ، فإنَّهم قالوا : { اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] إ فحاماً للرّسول صلى الله عليه وسلم وإظهاراً لتخلّف وعيده .
وبناء { توعدون } للمجهول يصحح أن يكون الفعل مضارع وَعد يَعِد ، أو مضارع أوْعد ، يُوعد والمتبادر هو الأوّل . ومن بديع الفصاحة اختيار بنائه للمجهول ، ليصلح لفظه لحال المؤمنين والمشركين ، ولو بني للمعلوم لتعيّن فيه أحد الأمرين : بأن يقال : إنّ ما نعدكم ، أو إنّ ما نُوعدكم ، وهذا من بديع التّوجيه المقصود منه أن يأخذ منه كلّ فريق من السّامعين ما يليق بحاله ، ومعلوم أنّ وعيد المشركين يستلزم وعْداً للمؤمنين ، والمقصود الأهمّ هو وعيد المشركين ، فلذلك عقّب الكلام بقوله : { وما أنتم بمعجزين } فذلك كالتّرشيح لأحد المحتمَلين من الكلام الموجَّه .
والإتيان مستعار للحصول تشبيها للشيء الموعودِ به المنتظر وقوعه بالشّخص الغائب المنتظرِ إتيانُه ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذابُ الله بغتة أو جهرة } في هذه السورة .
وحقيقة المُعجز هو الّذي يَجعل طالب شيءٍ عاجزاً عن نواله ، أي غير قادرين ، ويستعمل مجازاً في معنى الإفلات من تَناوُل طالبِه كما قال إياس بن قبيصَة الطائي "
ألم تَرَ أنّ الأرضَ رحْب فسيحة *** فهَل تُعْجزَنِّي بُقعة من بِقاعها
أي فلا تُفلت منّي بقعة منها لا يصل إليها العدوّ الّذي يطالبني . فالمعنى : وما أنتم بمعجزي أي : بمفلتين من وعيدي ، أو بخارجين عن قدرتي ، وهو صالح للاحتمالين .
ومجيء الجملة اسميّة في قوله : { وما أنتم بمعجزين } لإفادة الثّبات والدّوام ، في نسبة المسند للمسند إليه ، وهي نسبةُ نفيه عن المسند إليه ، لأنّ الخصوصيات الّتي تعتبر في حالة الإثبات تعتبر في حالة النّفي إذ النّفي إنَّما هو كيفيّة للنّسبة . والخصوصياتُ مقتضياتُ أحواللِ التّركيب ، وليس يختلف النّفي عن الإثبات إلاّ في اعتبار القيود الزائدة على أصل التّركيب ، فإنّ النّفي يعتبر متوجّهاً إليها خاصّة وَهي قيود مفاهيم المخالفة ، وإلاّ لبطلت خصوصيات كثيرة مفروضة مع الإثبات ، إذا صار الكلام المشتمل عليها منفياً ، مثل إفادة التجدّد في المسند الفعلي في قول جؤية بن النضر :
لا يألفُ الدرهمُ المضروب صرّتَنا *** لكن يمرّ عليها وهو منطق
إذ لا فرق في إفادة التّجدّد بين هذا المصراع ، وبين أن تقول : ألِفَ الدّرهم صرّتنا . وكذلك قوله تعالى : { لاَ هُنّ حِلّ لهم ولا هُم يحِلّون لهنّ } [ الممتحنة : 10 ] فإنّ الأول يفيد أنّ نفي حِلّهنّ لهم حكم ثابت لا يختلف ، والثّاني يفيد أنّ نفي حِلّهم لهُنّ حكم متجدّد لا ينسخ ، فهما اعتباران ، وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى : { واللَّه لا يحبّ كلّ كفّار أثِيم } في سورة البقرة ( 276 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.