ثم تنتقل السورة الكريمة من تأنيبهم وتيئيسهم من الاستجابة لجؤارهم ، إلى سؤالهم بأسلوب توبيخى عن الأسباب التى أدت بهم إلى الإعراض عما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم فتقول : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ . . . } .
قال الجمل : قوله - تعالى - : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول . . . } شروع فى بيان أسباب حاملة لهم على ما سبق من قوله - تعالى - : { فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُون . . . } إلخ .
والهمزة لإنكار ما هم فيه من عدم التدبر واستقباحه ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام : والمراد بالقول : القرآن الكريم وما اشتمل عليه من هدايات .
والمعنى : أفعلوا ما فعلوا من النكوص على الأعقاب ، ومن الغرور ومن الهذيان بالباطل من القول ، فلم يتدبروا هذا القرآن ، ولم يتفكروا فيما اشتمل عليه من توجيهات حكيمة . . .
إنهم لو تدبروه لوجدوا فيه من العظات والآداب والأحكام ، والقصص ، والعقائد ، والتشريعات . . . . ما يسعدهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم .
فالجملة الكريمة تحضهم على تدبر هذا القرآن ، لأنهم إن تدبروه تدبرا صادقاً . لعلموا أنه الحق الذى لا يحوم حوله باطل .
وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى - : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } وقوله - سبحانه - : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } وبعد أن وبخهم - سبحانه - على تركهم الانتفاع بالقرآن . أتبع ذلك بتقريعهم على أن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم يتفق فى أصوله مع ما جاء به الرسل السابقون لآبائهم الأولين .
أى : أكذبوا رسولهم لأنه جاءهم بما لم يأت به الرسل لآبائهم ؟ كلا ، فإن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم يطابق - فى جوهره - ما جاء به إبراهيم وإسماعيل وغيرهما ، من آبائهم الأولين .
قال - تعالى - { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ . . } وقال - سبحانه - : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ . . . } ويجوز أن يكون المعنى : أكذب هؤلاء الجاهلون رسولهم صلى الله عليه وسلم لأنهم فى أمان من العذاب ، وهذا الأمان لم يكن فيه آباؤهم الأولون ؟
كلا ، وإن من شأن العقلاء أنهم لا يأمنون مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .
قال الآلوسى : وأم فى قوله - تعالى - { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين } منقطعة ، وما فيها من معنى بل ، للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر . والهمزة فإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع . أى : بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين ، حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال ، بمعنى أن مجىء الكتب من جهته - تعالى - إلى الرسل قديمة له - تعالى - وأن مجىء القرآن جار على هذه السنة فلماذا ينكرونه ؟
وقيل المعنى : أفلم يدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته ، ما نزل بمن قبلهم من المكذبين ، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين ، حين خافوا الله - تعالى - فآمنوا به وبكتبه ورسله ، فالمراد بآبائهم : " المؤمنون " منهم كإسماعيل - عليه السلام - .
وينتقل بهم من مشهد التأنيب في الآخرة ، فيعود بهم إلى الدنيا من جديد ! يعود بهم ليسأل ويعجب من موقفهم ذاك الغريب . . ما الذي يصدهم عن الإيمان بما جاءهم به رسولهم الأمين ? ما الشبهات التي تحيك في صدورهم فتصدهم عن الهدى ? ما حجتهم في الإعراض عنه ، والسمر في مجالسهم بقالة السوء فيه ? وهو الحق الخالص والطريق المستقيم :
( أفلم يدبروا القول ? أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ? أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ? أم يقولون به جنة ? بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ! ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن . بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون . أم تسألهم خرجا ? فخراج ربك خير وهو خير الرازقين . وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم . وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ) . .
إن مثل ما جاء به محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لا يملك من يتدبره أن يظل معرضا عنه ، ففيه من الجمال ، وفيه من الكمال ، وفيه من التناسق ، وفيه من الجاذبية ، وفيه من موافقة الفطرة ، وفيه من الإيحاءات الوجدانية ، وفيه من غذاء القلب ، وفيه من زاد الفكر ، وفيه من عظمة الاتجاهات ، وفيه من قويم المناهج ، وفيه من محكم التشريع . . وفيه من كل شيء ما يستجيش كل عناصر الفطرة ويغذيها ويلبيها ( أفلم يدبروا القول )إذن ? فهذا سر إعراضهم عنه لأنهم لم يتدبروه . .
( أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ? ) . . فكان بدعا في مألوفهم ومألوف آبائهم أن يجيئهم رسول ! أو أن يجيئهم بكلمة التوحيد ! وذلك تاريخ الرسالات كلها يثبت أن الرسل جاءوا قومهم تترى ، وكلهم جاء بالكلمة الواحدة التي يدعوهم إليها هذا الرسول !
{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 75 ) } .
يقول تعالى منكرًا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم ، وتدبرهم له وإعراضهم عنه ، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف ، لا سيما وآباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية ، حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير ، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله إليهم بقبولها ، والقيام بشكرها وتفهمها ، والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار ، كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، ورضي عنهم .
وقال قتادة : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } إذًا والله يجدون{[20600]} في القرآن زاجرًا عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ، ولكنهم أخذوا بما تشابه ، فهلكوا عند ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَدّبّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأوّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أفلم يتدبر هؤلاء المشركون تنزيل الله وكلامه ، فيعلموا ما فيه من العبر ، ويعرفوا حجج الله التي احتجّ بها عليه فيه ؟ أمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأتِ آباءَهُمُ الأَوّلِينَ ؟ يقول : أم جاءهم أمر ما لم يأت من قبلهم من أسلافهم ، فاستكبروا ذلك وأعرضوا ، فقد جاءت الرسل من قبلهم ، وأنزلت معهم الكتب . وقد يحتمل أن تكون «أم » في هذا الموضع بمعنى : «بل » ، فيكون تأويل الكلام : أفلم يدبّروا القول ؟ بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين ، فتركوا لذلك التدبر وأعرضوا عنه ، إذ لم يكن فيمن سلف من آباءهم ذلك . وقد ذُكر عن ابن عباس في نحو هذا القول ، ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : أفَلَمْ يَدّبّرُوا القَوْلَ أمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الأَوّلِينَ قال : لعمري لقد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين ، ولكن أو لم يأتهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.