وقوله - تعالى - : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } بدل من " ما " أو خبر لمبتدأ محذوف .
والحكمة : العلم النافع الذى يترتب عليه تحرى الصواب فى القول والفعل .
أى : هذا الذى جاءهم من أنباء الماضين ، ومن أخبار السابقين فيه ما فيه عن الحكم البليغة ، والعظات الواضحة التى لا خلل فيها ولا اضطراب .
و " ما " فى قوله : { فَمَا تُغْنِ النذر } نافية ، والنذُر : جمع نذير بمعنى مُنذِر .
أى : لقد جاء إلى هؤلاء المشركين من الأخبار ومن الحكم البليغة ما يزجرهم عن ارتكاب الشرور ، وما فيه إنذار لهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا فى غيهم ، ولكن كل ذلك لا غناء فيه ، ولا نفع من ورائه لهؤلاء الجاحدين المعاندين الذين عمو وصموا . . .
ويصح أن تكون " ما " هنا ، للاستفهام الإنكارى . أى : ما الذى تغنيه النذر بالنسبة لهؤلاء المصرين على الكفر ؟ إنها لا تغنى شيئا ما داموا لم يفتحوا قلوبهم للحق :
وقوله : حِكْمَةٌ بالِغَةٌ يعني بالحكمة البالغة : هذا القرآن ، ورُفعت الحكمةُ ردّا على «ما » التي في قوله : وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الأنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ .
وتأويل الكلام : ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدَجَر ، حكمة بالغة . ولو رُفعت الحكمة على الإستئناف كان جائزا ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ : ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدجر ، ذلك حكمة بالغة ، أو هو حكمة بالغة فتكون الحكمة كالتفسير لها .
وقوله : فَمَا تُغْنِي النّذُرُ وفي «ما » التي في قوله : فَمَا تُغنِي النّذُرُ وجهان : أحدهما أن تكون بمعنى الجحد ، فيكون إذا وجهت إلى ذلك معنى الكلام ، فليست تغني عنهم النذر ولا ينتفعون بها ، لإعراضهم عنها وتكذيبهم بها . والاَخر : أن تكون بمعنى : أني ، فيكون معنى الكلام إذا وجهت إلى ذلك : فأيّ شيء تُغني عنهم النّذر . والنّذر : جمع نذير ، كالجُدُد : جمع جديد ، والحُصُر : جمع حَصير .
و { حكمة بالغة } بدل من { مَا } ، أي جاءهم حكمةٌ بالغة .
والحكمة : إتقان الفهم وإصابة العقل . والمراد هنا الكلام الذي تضمن الحكمة ويفيد سامعه حكمة ، فوصْفُ الكلام بالحكمة مجاز عقلي كثير الاستعمال ، وتقدم في سورة البقرة ( 269 ) ، { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } والبالغة : الواصلة ، أي واصلة إلى المقصود مفيدة لصاحبها .
وفرع عليه قوله : { فما تغن النذر } ، أي جاءهم ما فيه مزدجر فلم يُغن ذلك ، أي لم يحصل فيه الإقلاع عن ضلالهم .
و { ما } تحتمل النفي ، أي لا تغني عنهم النذر بعد ذلك . وهذا تمهيد لقوله : { فتول عنهم } [ القمر : 6 ] ، فالمضارع للحال والاستقبال ، أي ما هي مغنية ، ويفيد بالفحوى أن تلك الأنباء لم تغن عنهم فيما مضى بطريق الأحرى ، لأنه إذا كان ما جاءهم من الأنباء لا يغني عنهم من الانزجار شيئاً في الحال والاستقبال فهو لم يغن عنهم فيما مضى إذ لو أغنى عنهم لارتفع اللوم عليهم .
ويحتمل أن تكون { مَا } استفهامية للإِنكار ، أي ماذا تفيد النذر في أمثالهم المكابرين المصرين ، أي لا غناء لهم في تلك الأنباء ، ف { ما } على هذا في محل نصب على المفعول المطلق ل { تغن } ، وحذف ما أضيفت إليه { ما } . والتقدير : فأي غناء تغني النذر وهو المخبر بما يسوء ، فإن الأنباء تتضمن إرسال الرسل من الله منذرين لقومهم فما أغنوهم ولم ينتفعوا بهم ولأن الأنباء فيها الموعظة والتحذير من مثل صنيعهم فيكون المراد ب { النذر } آيات القرآن ، جعلت كل آية كالنذير : وجمعت على نُذُر ، ويجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإِنذار اسم مصدر ، وتقدم عند قوله تعالى : { هذا نذير من النذر الأولى } في آخر سورة النجم ( 56 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"حِكْمَةٌ بالِغَةٌ "يعني بالحكمة البالغة: هذا القرآن...
وتأويل الكلام: ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدَجَر، حكمة بالغة. ولو رُفعت الحكمة على الإستئناف كان جائزا، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدجر، ذلك حكمة بالغة، أو هو حكمة بالغة فتكون الحكمة كالتفسير لها.
وقوله: "فَمَا تُغْنِي النّذُرُ" وفي «ما» التي في قوله: "فَمَا تُغنِي النّذُرُ" وجهان:
أحدهما أن تكون بمعنى الجحد، فيكون إذا وجهت إلى ذلك معنى الكلام، فليست تغني عنهم النذر ولا ينتفعون بها، لإعراضهم عنها وتكذيبهم بها.
والآخر: أن تكون بمعنى: أي، فيكون معنى الكلام إذا وجهت إلى ذلك: فأيّ شيء تُغني عنهم النّذر. والنّذر: جمع نذير...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} تامة ليس فيها نقصان، وهي القرآن {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} إذا كذّبوهم وخالفوهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "حكمة بالغة " معناه نهاية في الصواب، وغاية في الزجر بهؤلاء الكفار.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والحكمة البالغة هي الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن تفكّر فيها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بالغة} معناه: يبلغ المقصد بها من وعظ النفوس والبيان لمن له عقل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{حكمة} عظيمة {بالغة} أي لها معظم البلوغ إلى منتهى غايات الحكمة لصحتها وطهارتها ووضوحها، ففيها مع الزجر ترجية ومواعظ وأحكام ودقائق تجل عن الوصف. ولما تسبب عنها انزجارهم، سبب عن ذلك قوله: {فما} نفياً صريحاً أو باستفهام إنكاري موبخ {تغن النذر} الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها -إنما المعني بذلك هو الله تعالى، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، ولعل الإشارة بإسقاط يا "تغني " بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت نمرة الإنذار وهو القبول.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكان فيه [القرآن الكريم] من حكمة الله ما يبلغ القلوب ويوجهها إلى تدبيره الحكيم. ولكن القلوب المطموسة لا تتفتح لرؤية الآيات، والانتفاع بالأنباء، واليقظة على صوت النذير بعد النذير: (حكمة بالغة فما تغن النذر). إنما هو الإيمان هبة الله للقلب المتهيئ للإيمان، المستحق لهذا الإنعام!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والحكمة: إتقان الفهم وإصابة العقل. والمراد هنا الكلام الذي تضمن الحكمة ويفيد سامعه حكمة، فوصْفُ الكلام بالحكمة مجاز عقلي كثير الاستعمال... والبالغة: الواصلة، أي واصلة إلى المقصود مفيدة لصاحبها. {فما تغن النذر}، أي جاءهم ما فيه مزدجر فلم يُغن ذلك، أي لم يحصل فيه الإقلاع عن ضلالهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} في ما جاء به الوحي الإلهي من الأفكار والتعاليم والتشريعات التي تطابق المصلحة العميقة للإنسان في حياته، لانسجامها مع الحكمة التي تضع الأشياء في مواضعها. ومن الطبيعي أن حركة الحكمة في الحياة خاضعةٌ للالتزام بها من قبل الناس، فلا فائدة منها إذا رفضوها وأصرّوا على عنادهم وتكذيبهم {فَمَا تُغْنِي النُّذُرُ} لأن قيمة الإنذار إنما تكون بالعمل، لأن دور المنذرين هو الإبلاغ، والباقي دور الذين أُنذِروا.