ثم يزيدون توبيخهم وتبكيتهم فيقولون لهم : { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
أى : أن أصحاب الأعراف يشيرون إلى أهل الجنة من الفقراء والذين كانوا مستضعفين في الأرض ثم يقولون لرءوس الكفر الذين كانوا يعذبونهم : أهؤلاء الذين أقسمتم في الدنيا أن الله - تعالى - لا ينالهم برحمة في الآخرة لأنه لم يعطهم في الدنيا مثل ما أعطاكم من مال وبنين وسلطان .
وهنا ينادى مناد من قبل الله - تعالى - على هؤلاء الفقراء فيقول لهم : { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
أى : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في المستقبل ، ولا أنتم تحزنون على ما خلفتموه في الدنيا .
وقيل : إن قوله - تعالى - : { ادخلوا } . من كلام أصحاب الأعراف - أيضاً ، فكأنهم التفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم : امكثوا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَهََؤُلآءِ الّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
اختلف أهل التأويل في المعنيين بهذا الكلام ، فقال بعضهم : هذا قيل الله لأهل النار توبيخا لهم على ما كان من قيلهم في الدنيا لأهل الأعراف عند إدخاله أصحاب الأعراف الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : أصحاب الأعراف : رجال كانت لهم ذنوب عظام ، وكان حَسْمُ أمرهم لله ، يقومون على الأعراف ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يدخلوها ، وإذا نظروا إلى أهل النار تعوّذوا بالله منها ، فأدخلوا الجنة . فذلك قوله تعالى : أهَؤُلاءِ الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ يعني أصحاب الأعراف ، ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : قال ابن عباس : إن الله أدخل أصحاب الأعراف الجنة لقوله : ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قال الله لأهل التكبر والأموال : أهَؤُلاءِ الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمْ اللّهُ بِرَحْمَةِ يعني أصحاب الأعراف ، ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أهَؤُلاءِ الضعفاء الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ . قال : فقال حُذيفَة : «أصحَابُ الأعْرَافِ قَوْمٌ تَكافَأتْ أعْمالُهُمْ فَقَصّرَتْ بِهِمْ حَسنَاتُهُمْ عَنِ الجَنّةِ ، وَقَصّرَتْ بِهِمْ سَيّئاتُهُمْ عَنِ النارِ ، فَجُعلُوا على الأعْرَافِ يَعْرِفونَ النّاسَ بِسِيماهُمْ . فَلَمّا قُضِيَ بينَ العِبادِ ، أُذِنَ لَهُمْ فِي طَلَبِ الشّفاعَةِ ، فَأتَوْا آدَمَ عَلَيْهِ السّلامُ ، فَقالُوا : يا آدَمُ أنْتَ أبُونا فاشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبّكَ فَقالَ : هَلْ تَعْلَمُونَ أحَدا خَلَقَه اللّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَسَبَقَتْ رَحْمَةُ اللّهِ إلَيْهِ غَضَبَهُ وَسجَدَتْ لَهُ المَلائِكَةُ غيرِي ؟ فَيَقُولُونَ لا . قال : فَيَقُولُ : ما عَلِمتُ كُنْهَ ما أسْتَطِيعُ أنْ أشْفَعَ لَكُمْ ، وَلَكِنْ ائْتُوا ابْنِي إبْرَاهِيمَ قال : فَيَأْتُونَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلامُ ، فَيَسأَلُونَهُ أنْ يَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ رَبّهِ ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْلَمُونَ مِنْ أحَدٍ اتّخَذَهُ اللّهُ خَلِيلاً ؟ هَلْ تَعْلَمونَ أحَدا أحْرَقَهُ قَوْمُهُ فِي النّارِ فِي الله غيرِي ؟ فَيَقُولونَ : لا فَيَقُولُ : ما عَلِمْتُ كُنْهَ ما أسْتَطِيعُ أنْ أشْفَعَ لَكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا ابني موسى فَيَأْتُونَ مِوسَى عَلَيْهِ السّلامُ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْلَمُونَ مِنْ أحَدٍ كَلّمَهُ اللّهُ تَكْلِيما وَقَرّبَهُ نَجِيّا غيرِي ؟ فَيَقُولُونَ : لا ، فَيَقُولُ : ما عَلِمْتُ كُنْهَ ما أسْتَطِيعُ أنْ أشْفَعَ لَكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ : اشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبّكَ فَيَقُولُ : هَلْ تَعْلَمُونَ أحدا خَلَقَهُ اللّهُ مِنْ غيرِ أبٍ غَيرِي ؟ فَيَقُولُونَ : لا ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْلَمُونَ مِنْ أحَدٍ كانَ يُبْرِىءُ الأكْمَه وَالأبْرَصَ ويُحْيِي المَوْتى بإذْن اللّهِ غيرِي ؟ قال : فَيَقُولُونَ : لا ، قالَ : فَيَقُولُ : أنا حَجِيجُ نَفْسِي ، ما عَلِمْتُ كُنْهَ ما أسْتَطِيعُ أنْ أشْفَعَ لَكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا محمدا رسْولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَيَأْتُونِي ، فَأضْرِبُ بِيَدِي على صَدْرِي ثُمّ أقُولُ : أنا لَهَا . ثُمّ أمْشِي حتى أقِفَ بينَ يَدَيَ العَرْشِ ، فَأُثْنِي عَلى رَبي ، فَيَفْتَحُ لي مِنَ الثّناء ما لَمْ يَسْمَعِ السّامِعُونَ بِمِثْلِهِ قَطّ ، ثُمّ أسْجُدَ فَيُقالُ لي : يا مُحَمّدُ ارْفَعْ رأسَكَ ، سَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفّعْ فَأرْفَعُ رأسِي فَأقُولُ : رَبّ أُمّتِي فَيُقالُ : هُمْ لَكَ . فَلا يَبْقَى نَبِيّ مُرْسَلٌ وَلا مَلَكٌ مُقَرّبٌ إلاّ غَبَطَنِي يَوْمَئِذٍ بذلكَ المَقامِ ، وَهُوَ المَقامُ المَحْمودُ » . قالَ : «فَآتي بِهِمْ بابَ الجَنّةِ فأسْتَفْتِحُ ، فَيُفْتَحُ لي ولَهُمْ ، فَيُذْهَبُ بِهِمْ إلى نَهْرٍ يُقالُ لَهُ نَهْرُ الحَياةِ ، حافَتاهُ قُضُبٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلّلٍ باللُؤْلُؤٍ ، تُرَابُهُ المِسْكُ ، وَحَصْباؤُهُ الياقُوتُ ، فَيَغْتَسِلُونَ مِنْهُ ، فَتَعُودُ إلَيْهِمْ ألْوَانُ أهْلِ الجَنّةِ وَرِيحُهُمْ ، وَيَصِيرُونَ كأنّهُمُ الكَوَاكِبُ الدّرّيّةِ ، وَيَبْقَى فِي صُدُرِهِمْ شاماتٌ بِيضٌ يُعْرَفُونَ بِها ، يُقال لَهُمْ مَساكِينُ أهْلِ الجَنّةِ » .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، قال : إن الله أدخلهم بعد أصحاب الجنة ، وهو قوله : ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ يعني أصحاب الأعراف . وهذا قول ابن عباس .
فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن ابن عباس ، ومن ذكرنا قوله فيه : قال الله لأهل التكبر عن الإقرار بوحدانية الله والإذعان لطاعته وطاعة رسله الجامعين في الدنيا الأموال مكاثرة ورياء : أيها الجبابرة الذين كانوا في الدنيا ، أهؤلاء الضعفاء الذين كنتم في الدنيا أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ؟ قال : قد غفرت لهم ورحمتهم بفضلي ورحمتي ، ادخلوا يا أصحاب الأعراف الجنة ، لا خوف عليكم بعدها من عقوبة تعاقبون بها على ما سلف منكم في الدنيا من الاَثام والإجرام ، ولا أنتم تحزنون على شيء فاتكم في دنياكم
وقال أبو مجلز : بل هذا القول خبر من الله عن قيل الملائكة لأهل النار بعد ما دخلوا النار تعييرا منهم لهم على ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدخلهم الله يوم القيامة جنته . وأما قوله : ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ فخبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز ، قال : نادت الملائكة رجالاً في النار يعرفونهم بسيماهم : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ؟ قال : فهذا حين يدخل أهل الجنة الجنة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون .
{ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } من تتمة قولهم للرجال ، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة وقالوا لهم ادخلوا وهو أوفق للوجوه الأخيرة أو فقيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى بعد أن حبسوا حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا . قيل لما عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة هؤلاء الذين أقسمتم . وقرئ { ادخلوا } و " دخلوا " على الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولا لهم { لا خوف عليكم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قالت الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط: {أهؤلاء}، يعني أصحاب الأعراف، {الذين أقسمتم} يا أهل النار أنهم {لا ينالهم الله برحمة}. ثم قالت الملائكة: يا أصحاب الأعراف، {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم} من العذاب، {ولا أنتم تحزنون}، من الموت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنيين بهذا الكلام؛
فقال بعضهم: هذا قيل الله لأهل النار توبيخا لهم على ما كان من قيلهم في الدنيا لأهل الأعراف عند إدخاله أصحاب الأعراف الجنة... عن ابن عباس: قال الله لأهل التكبر والأموال:"أهَؤُلاءِ الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمْ اللّهُ بِرَحْمَة" يعني أصحاب الأعراف، "ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ"...
فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن ابن عباس، ومن ذكرنا قوله فيه: قال الله لأهل التكبر عن الإقرار بوحدانية الله والإذعان لطاعته وطاعة رسله الجامعين في الدنيا الأموال مكاثرة ورياء: أيها الجبابرة الذين كانوا في الدنيا، أهؤلاء الضعفاء الذين كنتم في الدنيا أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟ قال: قد غفرت لهم ورحمتهم بفضلي ورحمتي، ادخلوا يا أصحاب الأعراف الجنة، لا خوف عليكم بعدها من عقوبة تعاقبون بها على ما سلف منكم في الدنيا من الآثام والإجرام، ولا أنتم تحزنون على شيء فاتكم في دنياكم
وقال أبو مجلز: بل هذا القول خبر من الله عن قيل الملائكة لأهل النار بعد ما دخلوا النار تعييرا منهم لهم على ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدخلهم الله يوم القيامة جنته. وأما قوله: ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ فخبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها...
قيل: يقول بعضهم لبعض. والمراد أنه تعالى يحث أصحاب الأعراف بالدخول في الجنة، واللحوق بالمنزلة التي أعدها الله تعالى لهم، وعلى هذا التقدير فقوله: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} من كلام أصحاب الأعراف. وقوله: {ادخلوا الجنة} من كلام الله تعالى، ولا بد ههنا من إضمار، والتقدير: فقال الله لهم هذا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم زادوا في توبيخهم وتقريعهم وتحزينهم وتأسيفهم والإنكار عليهم بقولهم مشيرين إلى ناس كانوا يستضعفونهم من أهل الجنة ويحقرونهم: {أهؤلاء} وكأنه يكشف لهم عنهم حتى يروهم زيادة في عذابهم {الذين أقسمتم} أي في الدنيا {لا ينالهم الله} أي الذي له صفات الكمال {برحمة} فكيف بكمال الرحمة. ولما كان التصريح بأمرهم بدخول الجنة إنكاء لأهل النار لأنه أنفى لما أقسموا عليه، قالوا: {ادخلوا} أي قال الله لهم أو قائل من قبله ادخلوا {الجنة لا خوف عليكم} أي من شيء يمكن توقع أذاه {ولا أنتم تحزنون} أي يتجدد لكم حزن في وقت من الأوقات على شيء فات لما عندكم من الخيرات التي لا تدخل تحت الوصف.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
..وجملة القول في أصحاب الأعراف أن ما حكاه تعالى عنهم يحتمل أن يكون... بعد المرور على الصراط وقبل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ وأن يكون بعد ذلك. فالأول لولا ما ينافيه مما تقدم يرجح أنهم الأنبياء وحدهم أو مع غيرهم من الشهداء على الخلق، لأن وجودهم هنالك تمييز وتفضيل على جميع أهل الموقف ولا يصح هذا لغيرهم إلا أن يكون للملائكة، وهو ما يمنع منه التعبير برجال، وإن أوله أبو مسلم بكونهم في صورتهم. والثاني والثالث يرجحان أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم بمعونة كثرة الروايات فيه، يوقفون على الأعراف طائفة من الزمن يظهر فيها عدل الله تعالى بعدم مساواتهم بأصحاب الحسنات الراجحة بدخول الجنة معهم ولا بأصحاب السيئات الراجحة بدخول النار معهم، ولو بقوا في هذه المنزلة بين المنزلتين لكان عدلا ولكن ورد أنه تعالى يعاملهم بعد هذا العدل بالفضل ويدخلهم الجنة، ولا بد أن يكون ذلك قبل إخراج من يعذبون في النار من المؤمنين الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم، والدليل على عدم بقاء أحد في منزلة بين الجنة والنار ما ورد من الآيات الكثيرة في القسمة الثنائية {فريق في الجنة وفريق في السعير} (الشورى 7).
وكل من تلك الاحتمالات التي يبنى عليها الترجيح بين هذين القولين له مرجحات ومعارضات من الآيات كما علم من تفسيرنا لها، وقد يكون من مرجحات الثاني والثالث وضع هذه الآيات بين نداء أهل الجنة أهل النار: {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا} (الأعراف 44) الآية ونداء أهل النار أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء والطعام الذي يتمتعون به في قوله عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ادخلوا الجنة} قال المفسّرون هؤلاء مثل سلمانَ، وبلال، وخبَّاب، وصُهَيب من ضعفاء المؤمنين، فإما أن يكونوا حينئذ قد استقرّوا في الجنّة فَجَلاَهم الله لأهل الأعراف وللرّجال الذين خاطبوهم، وإمّا أن يكون ذلك الحِوار قد وقع قبل إدخالهم الجنّة. وقسمُهم عليهم لإظهار تصلّبهم في اعتقادهم وأنّهم لا يخامرهم شكّ في ذلك كقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38]...
وقوله: {لا ينالهم الله برحمة}...، وذلك أنّ بشارات القرآن أولئك الضّعفاءَ، ووعدَه إياهم بالجنّة، وثناءَه عليهم نُزل منزلة كلام يقول: إنّ الله ينالهم برحمة، أي بأن جُعل إيواء الله إياهم بدار رحمته، أي الجنّة، بمنزلة النَّيْل وهو حصول الأمر المحبوب المبحُوث عنه كما تقدّم في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} [الأعراف: 37] آنفاً، فأطلق على ذلك الإيواءِ فعل (يَنال). وجعلت الرّحمة بمنزلة الآلة للنَّيل، وقد عمدوا إلى هذا الكلام المقدّر فنفوه فقالوا: {لا ينالهم الله برحمة}.
وهذا النّظم الذين حكي به قسمهم يؤذن بتهكّمهم بضعفاء المُؤمنين في الدّنيا، وقد أغفل المفسّرون تفسير هذه الآية بحسب نظمها...
وجملة: {ادخلوا الجنة}: التّقدير: قال لهم الله ادخلوا الجنّة، فكذّب اللَّهُ قسمَكُم وخيّب ظنّكم، وهذا كلّه من كلام أصحاب الأعراف، والأظهر أن يكون الأمر في قوله: {ادخلوا الجنة} للدّعاء لأنّ المشار إليهم بهؤلاء هم أناس من أهل الجنّة، لأنّ ذلك الحين قد استقرّ فيه أهل الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النّار، كما تقتضيه الآيات السّابقة من قوله: {ونادوا أصحابَ الجنّة أنْ سلام عليكم} إلى قوله {القومِ الظالمين} [الأعراف: 46، 47] فلذلك يتعيّن جعل الأمر للدّعاء، وإذ قد كان الدّخول حاصلاً فالدّعاء به لإرادة الدّوام.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ويلتفت أهل الأعراف إلى أهل الجنة، فيجدون الضعفاء الذين كانت تزدريهم أعين هؤلاء الطغاة فيخاطبونهم وهم في النار بقولهم: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (49)} هذا القول فيه بيان لمقام الإيمان، ودرك الكفر، لقد كانوا يسخرون منهم لفقرهم، ويحسبون أنهم أعلى منهم منزلة في الدنيا، فيجب أن يكونوا أعلى منزلة في الآخرة، وكانوا يقسمون بأن هؤلاء الفقراء أتباع النبيين لن ينالهم الله برحمة من عنده، أخذا من حال الفقر وازدرائهم التي كانوا عليها في الدنيا. فأهل الأعراف رأوهم في الجنة، فقالوا لأهل النار مشيرين إلى الضعفاء في الدنيا، وهم في الجنة أقوياء مستمتعون: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة}.
أهم الذين ترونهم رأى العين في رحمة الله تعالى في جنة الخلد، أهؤلاء والإشارة إليهم وهم في الجنة تجري من تحتهم الأنهار، {أهؤلاء الذين أقسمتم}، أن الله لا ينالهم برحمة، والتنكير الذي جاء على ألسنتهم في الدنيا لتصغير الرحمة، أي أنهم أقسموا أن الله تعالى لا ينالهم بأي رحمة مهما صغرت وضؤلت، وذلك لأفن عقولهم، وضلال أفهامهم، إذ ظنوا أن من ينالون القوة والثراء في الدنيا هم الذين ينالونها في الآخرة إن كانت، وما كان قسمهم هذا إلا لازدرائهم، وتكريم الأنبياء لهم، ووعدهم بالثواب عند الله، وإن الله تعالى يجزيهم أحسن الجزاء فما كان قسمهم إلا تكذيبا للأنبياء الذين وعدوهم الحسنى في الآخرة، وإن هذا التوسل على لسان أهل الأعراف نذير لما كان من أهل النار في الدنيا وبيان أنهم في ضلال مبين، وقد كان ضلالهم بالعيان المحسوس، لا بالحدس المتلمس.
وقد وجهوا بعد ذلك الخطاب لأولئك ملتفتين إليهم من التحدث عنهم إلى خطابهم فقالوا: {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون}.
ادخلوا أيها المخلصون الذين أخلصوا دينهم، وصبروا وصابروا الجنة بما فيها من نعيم حسي، وراحة نفسية، وطلب الدخول هنا تقرير للدخول؛ لأنهم دخلوا فعلا، وما كان دخولهم بعد الطلب، إنما كان قبله، كما ترى إنسانا في أرض طيبة فينتفع وهو فيها، ويستحقها، تقول له: ادخلها وابق فيها.
{لا خوف عليكم} من شر يحيق بكم، ولا هم يغمكم، بل أنتم في روح وريحان، {و لا أنتم تحزنون} على الخير لكم، وحاضر نعيم، وسعادة، وقد نزع الله تعالى من قلوبكم الغل فأنتم تنعمون براحة البال والمحبة والتواد بينكم، فلا تنغص من حقد أو حسد، أو تباغض.