التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (6)

وقد أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض . . } .

أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الذين زعموا أن القرآن أساطير الأولين ، وأنك افتريته من عند نفسك ، وأعانك على هذا الافتراء قوم آخرون . . . . قل لهم : كذبتم أشنع الكذب وأقبحه ، فأنتم أول من يعلم بأن هذاب القرآن له من الحلاوة والطلاوة ، وله من حسن التأثير ما يجعله - باعتراف - زعمائكم ليس من كلام البشر وإنما الذى أنزله علىَّ هو الله - تعالى - الذى يعلم السر فى السموات والأرض ، أى : يعلم ما خفى فيها ويعلم الأسرار جميعها فضلا عن الظواهر .

قال الآلوسى : " قل " لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق : أنزله الله - تعالى - الذى لا يعزب عن علمه شىء من الأشياء ، وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع ، لا تحوم حوله الأفهام ، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته ، وأخبركم بمغيبات مستقبلة ، وأمور مكنونة ، لا يهتدى إليها ولا يوقف - إلا بتوفيق الله - تعالى - العليم الخبير عليها . . .

ثم ختم - سبحانه - الآية بما يفتح باب التوبة للتائبين ، وبما يحرضهم على الإيمان والطاعة لله رب العالمين فقال - تعالى - : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } .

أى : إنه - سبحانه - واسع المغفرة والرحمة ، لمن ترك الكفر وعاد إلى الإيمان ، وترك العصيان وعاد إلى الطاعة .

قال الإمام ابن كثير : وقوله : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم وأن من تاب إليه تاب عليه ، فهؤلاء مع كذبهم . وافترائهم . وفجورهم . وبهتهم . وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم - سبحانه - إلى التوبة والإقلاع عما هم عليه من كفر إلى الإسلام والهدى . كما قال - تعالى - : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال الحسن البصرى : انظروا إلى هذا الكرم والجود . قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (6)

وقوله : قُلْ أنْزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بآيات الله من مشركي قومك : ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأوّلين وأن محمد صلى الله عليه وسلم افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، بل هو الحقّ ، أنزله الربّ الذي يعلم سرّ من في السموات ومن في الأرض ، ولا يخفى عليه شيء ، ومُحْصِي ذلك على خلقه ، ومُجازيهم بما عزمت عليه قلوبهم وأضمروه في نفوسهم . إنّهُ كانَ غَفُورا رَحِيما يقول : إنه لم يزل يصفح عن خلقه ويرحمهم ، فيتفضلُ عليهم بعفوه ، يقول : فلأَن ذلك من عادته في خلقه ، يُمْهلكم أيها القائلون ما قلتم من الإفك والفاعلون ما فعلتم من الكفر .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : قُلْ أنْزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : ما يسر أهل الأرض وأهل المساء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (6)

لقن الله رسوله الجواب لرد بهتان القائلين إن هذا القرآن إلا إفك ، وإنه أساطير الأولين ، بأنه أنزله الله على رسوله .

وعبر عن منزل القرآن بطريق الموصول لما تقتضيه الصلة من استشهاد الرسول الله على ما في سره لأن الله يعلم كل سر في كل مكان .

فجملة الصلة مستعملة في لازم الفائدة وهو كون المتكلم ، أي الرسول ، عالماً بذلك . وفي ذلك كناية عن مراقبته الله فيما يبلغه عنه . وفي ذلك إيقاظ لهم بأن يتدبروا في هذا الذي زعموه إفكاً أو أساطير الأولين ليظهر لهم اشتماله على الحقائق الناصعة التي لا يحيط بها إلا الله الذي يعلم السر ، فيُوقِنُوا أن القرآن لا يكون إلا من إنزاله ، وليعلموا براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستعانة بمن زعموهم يعينونه .

والتعريف في { السر } تعريف الجنس يستغرق كل سر ، ومنه إسرار الطاعنين في القرآن عن مكابرة وبهتان ، أي يعلم أنهم يقولون في القرآن ما لا يعتقدونه ظلماً وزوراً منهم ، وبهذا يعلم موقع جملة : { إنه كان غفوراً رحيماً } ترغيباً لهم في الإقلاع عن هذه المكابرة وفي اتباع دين الحق ليغفر الله لهم ويرحمهم ، وذلك تعريض بأنهم إن لم يقلعوا ويتوبوا حَق عليهم الغضب والنقمة .