ساق - سبحانه - ما يدخل البهجة والسرور على النفوس ، عن طريق بيان حسن عاقبة السعداء ، فقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى . وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى } .
أى : قد أفلح وفاز وانتفع بالتذكير ، من حاول تزكية نفسه وتطهيرها من كل سوء
ومن ذكر اسم ربه بقلبه ولسانه ، فصلى الصلوات الخمس التى فرضها الله - تعالى - عليه . وأضاف إليها ما استطاع من نوافل وسنن .
وعبر - سبحانه - بقوله : { قَدْ أَفْلَحَ } ليجمع فى هذا التعبير البليغ ، كل معانى الخير والنفع ، لأن الفلاح معناه : وصول المرء إلى ما يطمح إليه من فوز ونفع .
وجاء التبعير بالماضى المسبوق بقد ، للدلالة على تحقيق هذا الفلاح بفضل الله - تعالى - ورحمته .
وقد اشتملت هاتان الآيتان على الطهارة من العقائد الباطلة { تزكى } وعلى استحضار معرفة الله - تعالى - { وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ } وعلى أداء التكاليف الشرعية التى على رأسها الصلاة { فصلى } .
وهذه المعانى هى التى وصلت صاحبها إلى الفلاح الذى ليس بعده فلاح .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكّىَ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّىَ * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ * إِنّ هَذَا لَفِي الصّحُفِ الاُولَىَ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ } .
يقول تعالى ذكره : قد نجح وأدرك طلبته من تطهّر من الكفر ومعاصي الله ، وعمل بما أمره الله به ، فأدّى فرائضه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى يقول : من تَزَكّى من الشرك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال : حدثنا هشام ، عن الحسن ، في قوله قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى قال : من كان عمله زاكيا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى قال : يعمل وَرِعا .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عُمر العَدَنيّ ، عن الحكم ، عن عكرِمة ، في قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى من قال : لا إله إلاّ الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قد أفلح من أدّى زكاة ماله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عليّ بن الأقمر ، عن أبي الأحوص قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى قال : من استطاع أن يرضَخَ فليفعل ، ثم ليقم فليصلّ .
حدثنا محمد بن عمارة الرازي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن الأقمر ، عن أبي الأحوص قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى قال : من رَضَخ .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد بن مرّة ، قال : حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، قال : إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة ، فليقدّم بين يدي صلاته زكاته ، فإن الله يقول : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى فمن استطاع أن يقدّم بين يدي صلاته زكاةً فليفعل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى تزكى رجل من ماله ، وأرضى خالقه .
وقال آخرون : بل عنى بذلك زكاة الفطر . ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة ، قال : دخلت على أبي العالية ، فقال لي : إذا غَدَوت غدا إلى العيد فمرّ بي ، قال : فمررت به ، فقال : هل طَعِمت شيئا ؟ قلت : نعم ، قال : أَفَضْت على نفسك من الماء ؟ قلت : نعم ، قال : فأخبرني ما فعلت بزكاتك ؟ قلت : قد وجّهتها ، قال : إنما أردتك لهذا ، ثم قرأ : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى وقال : إن أهل المدينة لا يَرَون صدقة أفضل منها ، ومن سِقاية الماء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره : قد نجح وأدرك طلبته من تطهّر من الكفر ومعاصي الله ، وعمل بما أمره الله به ، فأدّى فرائضه ... عن ابن عباس ، قوله : "قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى" يقول : من تَزَكّى من الشرك ... عن الحسن ، في قوله "قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى" قال : من كان عمله زاكيا ... عن قتادة "قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى" قال : يعمل وَرِعا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قد أفلح من أدّى زكاة ماله ...
وقال آخرون : بل عنى بذلك زكاة الفطر ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي من أتى بما تزكو به نفسه ، أو بما تطهر نفسه به . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تطهر من الشرك والمعاصي . أو تطهر للصلاة . أو تكثر من التقوى ، من الزكاة وهو النماء . أو تفعل من الزكاة ، كتصدق من الصدقة . ...
( أحدهما ) أنه تعالى لما ذكر وعيد من أعرض عن النظر والتأمل في دلائل الله تعالى ، أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر من دنس الشرك.
( وثانيهما ) : وهو قول الزجاج : تكثر من التقوى لأن معنى الزاكي النامي الكثير ، وهذا الوجه معتضد بقوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } أثبت الفلاح للمستجمعين لتلك الخصال ...
وأما الوجه الأول فإنه معتضد بوجهين :
( الأول ) أنه تعالى لما لم يذكر في الآية ما يجب التزكي عنه علمنا أن المراد هو التزكي عما مر ذكره قبل الآية ، وذلك هو الكفر ، فعلمنا أن المراد ههنا : { قد أفلح من تزكى } عن الكفر الذي مر ذكره قبل هذه الآية.
( والثاني ) : أن الاسم المطلق ينصرف إلى المسمى الكامل ، وأكمل أنواع التزكية هو تزكية القلب عن ظلمة الكفر فوجب صرف هذا المطلق إليه ، ويتأكد هذا التأويل بما روي عن ابن عباس أنه قال معنى : { تزكى } قول : لا إله إلا الله . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ قد أفلح } أي فاز بكل مراد { من تزكّى } أي أعمل نفسه في تطهيرها من فاسد الاعتقادات والأخلاق والأقوال والأفعال والأموال وتنمية أعمالها القلبية والقالبية وصدقة أموالها ، وذلك هو التسبيح الذي أمر- به أول السورة وما تأثر عنه ، من عمل هذا فهو الأسعد .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد جُمعت أنواع الخير في قوله : { قد أفلح } فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير ، وتقدم في قوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } في البقرة ( 5 ) . والإِتيان بفعل المضي في قوله أفلح } للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة ، واقترانه بحرف { قد } لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وقوله : { قد أفلح من زكاها } [ الشمس : 9 ] لأن الكلام موجه إلى الأشقَيْنَ الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الالتحاق بالذين خشوا فأفلحوا . ومعنى { تزكَّى } : عالج أن يكون زكياً ، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى : { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } [ الشمس : 9- 10 ] . فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد ، وأصل ذلك هو التوحيدُ والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجيء بها ، فيشمل زكاة الأموال . أخرج البزار عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قد أفلح من تزكى } قال : من شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول الله ، { وذكر اسم ربه فصلى } قال : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها ، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة . وقدم التزكّي على ذكر الله والصلاةِ لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعُلمت منافعها وأكثرت من الإِقبال عليها فالتزكية : الارتياض على قبول الخير والمراد تزكّى بالإِيمان . ...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.