فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{إِلَّا مَوۡتَتَنَا ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ} (59)

{ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون( 50 )قال قائل منهم إني كان لي قرين( 51 )يقول أئنك لمن المصدقين( 52 )أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون( 53 )قال هل أنتم مطلعون( 54 )فاطلع فرآه في سواء الجحيم( 55 )قال تا الله إن كدت لتردين( 56 )ولول نعمة ربي لكنت من المحضرين( 57 )أفما نحن بميتين( 58 )إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين( 59 )إن هذا لهو الفوز العظيم( 60 )لمثل هذا فليعمل العاملون( 61 ) } .

وأهل الجنة يتساءلون ، ويتحدث بعضهم مع بعض ويتفاوضون ، ويتذاكرون ما كان منهم في حياتهم الدنيا ، وما لاقوه ، -وهو معطوف على معنى : { يطاف عليهم } المعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشراب . . . فيقبل بعضهم يتساءلون . . . إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله تعالى في إخباره-{[3915]} .

{ قال قائل منهم إني كان لي قرين } قال واحد من المنعمين لجلسائه في دار الخلد والتكريم : إني كان لي رفيق مقارن ، وصاحب ملازم-من الإنس أو من الجن-صاحبني في الدنيا وكان يقول لي منكرا مستبعدا ، ومكذبا بالقيامة جاحدا : { أئنك لمن المصدقين . أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون } ويعجب مني ويسخر كيف استيقنت بالحساب والجزاء ، وأنّى للأجسام بعد بلاها وتفتت أجزائها أن تعود كسابق عهدها ؟ ! قال المتحدث لمن يحدثهم : أدعوكم لتطلعوا على رفيق السوء الذي حدثتكم عما كان منه ؟ أشرفوا وانظروا ! فاطلع فأبصر به في وسط جهنم ، وازداد المطلعون شكرا للبر الرحيم ، أن وقاهم عذاب الجحيم ، وقال متحدثا بفضل مولاه شاكرا لأنعمه : { تا الله إن كدت لتردين } قسما بالله لقد قاربت أن تهلكني بسوء وسواسك { . . يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا . . }{[3916]} ولو أطعتك لخسرت خسرانا مبينا { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } ولولا أن الله تعالى منّ عليّ باليقين ، وعصمني من تضليل الزائغين ، لكان المصير إلى العذاب المهين ، -ولكنه رحمني فهداني للإيمان وأرشدني إلى توحيده { . . وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . . }{[3917]}-{[3918]} ، فإياك أخي ترافق من يزين لك الغرور ، ولا يزجرك عن مسالك الكفور والفجور ، فإن المرء على دين خليله ، وصدق الله العظيم ، { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }{[3919]} ، ويتابع المؤمن حديثه فرحا بما آتاه الله من فضله حيث أدخله دار السلام ، ومنحه الخلد فيها دون موت ولا أسقام : { أفما نحن بميتين . إلا موتتنا الأولى{[3920]} وما نحن بمعذبين } ؟ ! [ وأحضر لا يستعمل مطلقا إلا في الشر ، قاله الماوردي ، قوله تعالى : { أفما نحن بميتين } . . . معناه : أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين ؟ ! وهو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت ، ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت . . ]{[3921]} .

{ إن هذا لهو الفوز العظيم } عن قتادة : قوله { أفما نحن بميتين } إلى قوله : { الفوز العظيم } قال : هذا قول أهل الجنة ، وقوله : { لمثل هذا فليعمل العاملون } يقول تعالى ذكره : لمثل هذا الذي أعطيت هؤلاء المؤمنين من الكرامة في الآخرة فليعمل في الدنيا لأنفسهم العاملون ليدركوا ما أدرك هؤلاء بطاعة ربهم . النحاس : وتقدير الكلام- والله أعلم- : فليعمل العاملون لمثل هذا ، فإن قال قائل : الفاء في العربية تفيد أن الثاني بعد الأول ، فكيف صار ما بعدها ينوى به التقديم ؟ فالجواب : أن التقديم كمثل التأخير ، لأن حق حروف الخفض وما بعدها أن تكون متأخرة .


[3915]:ما بين العارضتين مما أورد القرطبي.
[3916]:سورة الأنعام من الآية 112.
[3917]:سورة الأعراف من الآية 43.
[3918]:ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم.
[3919]:سورة الزخرف.الآية 67.
[3920]:يقول صاحب روح المعاني-العلامة الألوسي- {إلا موتتنا الأولى} التي كانت في الدنيا، وهي متناولة عند أهل السنة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال لعدم الاعتداد بالحياة فيه لكونها غير تامة ولا قارة، وزمانها قليل جدا.
[3921]:ما بين العلامتين[ ]مما أورد القرطبي.