فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَصَدَّقَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ} (6)

{ وصدق بالحسنى } صدق بموعود الله الذي وعده أن يثيبه كالخلف من عطائه في العاجلة ، والدرجات العالية في الآجلة .

{ أعطى } بذل وأنفق .

{ واتقى } انتهى عما نهى الله عنه ، وعمل بأمره ؛ وخشي ربه عز وجل .

{ فأما من أعطى واتقى ( 5 ) وصدق بالحسنى( 6 ) فسنيسره لليسرى ( 7 ) وأما من بخل واستغنى ( 8 ) وكذب بالحسنى ( 9 ) فسنيسره للعسرى ( 10 ) وما يغني عنه ماله إذا ترى ( 11 ) إن علينا للهدى ( 12 ) وإن لنا للآخرة والأولى( 13 ) } .

كان المقسم عليه في الآيات الكريمة السابقة أن أعمال العباد متخالفة ؛ فمنهم من آمن وبر ، ومنهم من كفر وفجر ، وفي هذه الآيات المباركة بيان اختلاف الجزاء ؛ فأما من أدى حق المال ، وبذل وأنفق في القربات والحلال ، واتقى ربه ذا الجلال ، الكبير المتعال ، فعمل بما يرضيه وانتهى عن مناهيه ، وصدق واستيقن بما هو ملاقيه ، من الخلف من عطائه ، ومن الدرجات العالية المعدة للذين آمنوا ، واتقوا وأحسنوا ، فهذا يرشده الله تعالى لأسباب الخير { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى . . }{[11202]} .

إذا حلت الهداية قلبا نشطت في العبادة الأعضاء .

{ أولئك يسارعون في الخير وهم لها سابقون }{[11203]} { . . . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون }{[11204]} ؛ وأما من ضن وشح ، ومنع حق المال وغل يده ، فسنهيئه ونمد له في الضلالة ، كما قال عز من قائل : { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا }{[11205]} .

قال الفراء : يقول القائل : كيف قال : { فسنيسره للعسرى } وهل في العسرى تيسير ؟ فيقال في الجواب : هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل : { . . فبشرهم بعذاب أليم }{[11206]} والبشارة في الأصل على المفرح والمسار ، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر ، جاءت البشارة فيهما ؛ وكذلك التيسير في الأصل على المفرح ، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر ، جاء التيسير فيهما جميعا ، قال الفراء : وقوله تعالى : { فسنيسره } : سنهيئه . اه{[11207]} .

{ وما يغني عنه ماله إذا تردى } لا يغني عنه ماله إذا هلك وسقط في جهنم { يوم لا ينفع مال ولا بنون . إلا من أتى الله بقلب سليم }{[11208]} { . . لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم . . }{[11209]} { . . سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . . }{[11210]} وأي شيء يغني عنهم المال إلا أن يكون مكواة تزيد ألمهم في دار الخبال والنكال ؟ ! { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبابهم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون }{[11211]} .

{ إن علينا للهدى } إن علينا لبيان الرشد من الغي ، وعلينا ثواب هدى المهتدين ؛ { وإن لنا للآخرة والأولى } وإنا لنملك الدنيا والعقبى ، فمن كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ، ومن طلبهما من غير مالكهما فقد ضل . في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ){[11212]} وفي الصحيحين والترمذي عن علي رضي الله عنه قال : كنا في جنازة بالبقيع ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس وجلسنا معه ، ومعه عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : ( ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مدخلها ) فقل القوم : يا رسول الله ! أفلا نتكل على كتابنا ؟ فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة ، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء ؛ قال : ( بل اعملوا فكل ميسر أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة{[11213]} ، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء- ثم قرأ- { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } لفظ الترمذي ؛ وقال فيه : حديث حسن صحيح- وأصل التيسير من اليسر بمعنى السهولة ، لكن أريد التهيئة والإعداد للأمر ، أعني ما يفضي إلى راحة ، وما يفضي إلى شدة . . . وقيل : التيسير أولا بمعنى اللطف ؛ وثانيا بمعنى الخذلان . . . والمعنى : أما من أعطى فسنلطف به ونوفقه ، حتى تكون الطاعة عليه أيسر الأمور وأهونها ، من قوله تعالى : { فمن يريد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . . . }{[11214]} ؛ وأما من بخل . . . فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد ، من قوله تعالى : { . . يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . . }{[11215]} . . { وإن لنا للآخرة والأولى } أي التصرف الكلي فيهما . . . أو إن لنا كل ما في الدارين ، فلا يضرنا ترككم الاهتداء ، وعدم انتفاعكم بهدانا ؛ أو : فلا ينفعنا اهتداؤكم ، كما لا يضرنا ضلالكم ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها{[11216]} .


[11202]:- سورة مريم. من الآية 76.
[11203]:- سورة المؤمنون. الآية 61.
[11204]:- سورة المجادلة. من الآية 22..
[11205]:- سورة مريم. الآية 75.
[11206]:- سورة الانشقاق. الآية 24.
[11207]:- نقل هذا عن الفراء صاحب الجامع لأحكام القرآن كما نقل: والعرب تقول قد يسرت الغنم: إذا ولدت أو تهيأت للولادة؛ أورد محققه: لأبي أسيدة الدبيري. غنيين لا يجدي علينا غناهما يسوداننا أن يسرت غنماهما
[11208]:- سورة الشعراء. الآيتان 88، 89.
[11209]:- سورة المائدة. من الآية 36.
[11210]:- سورة آل عمران. من الآية 18.
[11211]:- سورة التوبة. الآية 35.
[11212]:- وروى من حديث أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: اللهم اعط منفقا خلفا واعط ممسكا تلفا) فأنزل الله تعالى في ذلك القرآن: {فأما من أعطى} الآيات.
[11213]:- مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن المبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان: سأل غلامان شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم في شيء يستأنف؟ فقال عليه السلام: (بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) قالا: ففيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لعمل الذي خلق له) قالا: فالآن نجد ونعمل. جـ 20، ص 84.
[11214]:- سورة الأنعام. من الآية 125.
[11215]:- سورة الأنعام. من الآية 125.
[11216]:- ما بين العارضتين من روح المعاني.