المسألة الأولى : قرئ إني بكسر الهمزة على أنه دعاء ، فكأنه قال : إني مغلوب ، وبالفتح على معنى بأني .
المسألة الثانية : ما معنى مغلوب ؟ نقول فيه وجوه ( الأول ) : غلبني الكفار فانتصر لي منهم ( الثاني ) : غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم فانتصر لي من نفسي ، وهذا الوجه نقله ابن عطية وهو ضعيف ( الثالث ) : وجه مركب من الوجهين وهو أحسن منهما وهو أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم ، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملا ، ثم إن يأسه يحصل والاحتمال يفر بعد اليأس بمدة ، بدليل قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { لعلك باخع نفسك } ، { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وقال تعالى : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } فقال نوح : يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدعاء عليهم فأهلكهم ، فيكون معناه [ إني ] مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي .
المسألة الثالثة : فانتصر معناه انتصر لي أو لنفسك فإنهم كفروا بك وفيه وجوه ( أحدها ) : فانتصر لي مناسب لقوله مغلوب ( ثانيها ) : فانتصر لك ولدينك فإني غلبت وعجزت عن الانتصار لدينك ( ثالثها ) : فانتصر للحق ولا يكون فيه ذكره ولا ذكر ربه ، وهذا يقوله قوي النفس بكون الحق معه ، يقول القائل : اللهم أهلك الكاذب منا ، وانصر المحق منا .
قوله جلّ ذكره : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاءٍ مُّنهْمَرٍ } .
كذب قوم نوح نبيَّهم ، وقالوا : إنه مجنون ، وزجروه وشتموه .
وقيل : { وَازْدُجِرَ } : أي استطار عَقْلهُ ، أي قومُ نوحٍ قالوا له ذلك .
فدعا ربَّه فقال : إِني مغلوب ؛ أي بتسلُّطِ قومي عليَّ ؛ فلم يكن مغلوباً بالحُجَّة لأنَّ الحُجَّةَ كانت عليهم ، فقال نوح لله : اللهمَّ فانتَصِرْ منهم أي انْتَقِمْ .
ففتحنا أبواب السماء بماءٍ مُنْصَبٍّ ، وشَقَقْنَا عيوناً بالماء ، فالتقي ماء السماءِ وماءُ الأرضِ على أمرٍ قد قُدِّرَ في اللوح المحفوظ ، وَقُدِرَ عليه بإهلاكهم !
وفي التفاسير : أن الماء الذي نَبَعَ من الأرضِ نَضَبَ . والماء الذي نزل من السماء هو البخارُ اليومَ .
مغلوب فانتصر : مغلوب فانتقم لي منهم .
10- { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } .
بعد عناد طويل ، وتكذيب وإصرار من قوم نوح ، وبعد أن صبر هذا الرسول صبرا طويلا ، واشتكى إلى الله ما حكاه القرآن ، حيث قال تعالى :
{ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً } .
دعا نوح ربه قائلا : إني مغلوب مقهور فانتصر لي يا الله ، وقد استجاب الله دعاء نوح عليه السلام .
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى } أي بأني .
وقرأ ابن أبي اسحق . وعيسى . والأعمش . وزيد بن علي ورويت عن عاصم { إِنّى } بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين { مَغْلُوبٌ } من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم { فانتصر } فانتقم لي منهم ، وقيل : فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك ، وقيل : المراد بمغلوب غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم ، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار .