ثم قال تعالى : { ولقد تركناها آية } وفي العائد إليه الضمير وجهان : ( أحدهما ) : عائد إلى مذكور وهو السفينة التي فيها ألواح وعلى هذا ففيه وجهان ( أحدهما ) : ترك الله عينها مدة حتى رؤيت وعلمت وكانت على الجودي بالجزيرة وقيل بأرض الهند ( وثانيهما ) : ترك مثلها في الناس يذكر وثاني الوجهين الأولين أنه عائد إلى معلوم أي تركنا السفينة آية ، والأول أظهر وعلى هذا الوجه يحتمل أن يقال : { تركناها } أي جعلناها آية لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة يقول القائل : تركت فلانا مثلة أي جعلته ، لما بينا أنه من فرغ من أمر تركه وجعله فذكر أحد الفعلين بدلا عن الآخر .
وقوله تعالى : { فهل من مدكر } إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تم ولم يبق إلا جانب المرسل إليهم بأن كانوا منذرين متفكرين يهتدون بفضل الله { فهل من مدكر } مهتد ، وهذا الكلام يصلح حثا ويصلح تخويفا وزجرا ، وفيه مسائل :
الأولى : قال هاهنا { ولقد تركناها } وقال في العنكبوت : { وجعلناها آية } قلنا هما وإن كانا في المعنى واحدا على ما تقدم بيانه لكن لفظ الترك يدل على الجعل والفراغ بالأيام فكأنها هنا مذكورة بالتفصيل حيث بين الإمطار من السماء وتفجير الأرض وذكر السفينة بقوله : { ذات ألواح ودسر } وذكر جريها فقال : { تركناها } إشارة إلى تمام الفعل المقدور وقال هناك { وجعلناها } إشارة إلى بعض ذلك فإن قيل : إن كان الأمر كذلك فكيف قال هاهنا { وحملناه } [ القمر : 13 ] ولم يقل : وأصحابه وقال هناك { وأنجيناه وأصحاب السفينة } ؟ نقول : النجاة هاهنا مذكورة على وجه أبلغ مما ذكره هناك لأنه قال : { تجري بأعيننا } أي حفظنا وحفظ السفينة حفظ لأصحابه وحفظ لأموالهم ودوابهم والحيوانات التي معهم فقوله : { وأنجيناه وأصحاب السفينة } لا يلزم منه إنجاء الأموال إلا ببيان آخر والحكاية في سورة هود أشد تفصيلا وأتم فلهذا قال : { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } يعني المحمول ثم قال تعالى : { واستوت على الجودي } تصريحا بخلاص السفينة وإشارة إلى خلاص كل من فيها وقوله : { آية } منصوبة على أنها مفعول ثان للترك لأنه بمعنى الجعل على ما تقدم بيانه وهو الظاهر ، ويحتمل أن يقال حال فإنك تقول تركتها وهي آية وهي إن لم تكن على وزن الفاعل والمفعول فهي في معناه كأنه قال : تركناها دالة ، ويحتمل أن يقال : نصبها على التمييز لأنها بعض وجوه الترك كقوله ضربته سوطا .
المسألة الثانية : { مدكر } مفتعل من ذكر يذكر وأصله مذتكو [ لما ] كان مخرج الذال قريبا من مخرج التاء ، والحروف المتقاربة المخرج يصعب النطق بها على التوالي ولهذا إذا نظرت إلى الذال مع التاء عند النطق تقرب الذال من أن تصير تاء والتاء تقرب من أن تصير دالا فجعل التاء دالا ثم أدغمت الدال فيها ومنهم من قرأ على الأصل مذتكر ومنهم من قلب التاء دالا وقرأ مذدكر ومن اللغويين من يقول في مدكر مذدكر فيقلب التاء ولا يدغم ولكل وجهة ، والمدكر المعتبر المتفكر ، وفي قوله : { مدكر } إما إشارة إلى ما في قوله : { ألست بربكم ؟ قالوا بلى } أي هل من يتذكر تلك الحالة وإما إلى وضوح الأمر كأنه حصل للكل آيات الله ونسوها { فهل من مدكر } يتذكر شيئا منها .
تركناها آية : أبقينا ذكرها عبرة وعظة .
15- { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } .
لقد تركنا تلك الحادثة – وهي الطوفان – عبرة وبيانا للقدرة الإلهية التي تمحق المكذبين ، وتنصر المؤمنين ، فهل من معتبر ومتعظ .
وقيل : المعنى : تركنا السفينة مدّة طويلة ليعتبر بها من يعتبر ، وأمثالها صار رمادا ونخر فيه السوس .
{ ولقد تركاها } أي أبقينا هذه الفعلة التي فعلناها بهم{ آية } عبرة وعظة لمن يعتبر ويتعظ بها . { فهل من مدكر } فهل من معتبر يعتبر بها ؟ استفهام بمعنى النفي ؛ أي لا معتبر ولا متعظ بها . وأصله مذتكر من الذكر . أبدلت التاء دالا مهملة وكذا الذال المعجمة وأدغمت فيها ؛ ومنه : " وادكر بعد أمة " {[338]} أي تذكر بعد نسيان .
{ وَلَقَدْ تركناها } أي أبقينا السفينة { ءايَةً } بناءاً على ما روي عن قتادة . والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة ، أو أبقينا خبرها ، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن ، أو تركنا بمعنى جعلنا ، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار ، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية مذكر بالذال المعجمة على قلب تار الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال ، وقال صاحب اللوامح : قرأ قتادة فهل من مذكر بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها ، وقرئ مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل .
{ ولقد تركناها } : أي إغراقنا لهم على الصورة التي تمت عليها .
{ آية } : أي لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم .
{ فهل من مدّكر } : أي معتبر ومتعظ بها .
وقوله { ولقد تركناها آية } أي تلك الفعلة التي فعلنا بهم وهي إغراقنا لهم تركناها آية للاعتبار لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم .
وقوله تعالى { فهل من مدّكر } أي معتبر ومتعظ بها .
- تقرير حادثة الطوفان والتي لا ينكرها إلا سفيه لم يحترم عقله .
{ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي : ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون ، على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد ، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها ، وأن أصل صنعتها تعليم
من الله لعبده{[931]} نوح عليه السلام ، ثم أبقى الله تعالى صنعتها وجنسها بين الناس ليدل ذلك على رحمته بخلقه وعنايته ، وكمال قدرته ، وبديع صنعته ، { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } ؟ أي : فهل من متذكر{[932]} للآيات ، ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها ، فإنها في غاية البيان واليسر ؟