وفي قوله تعالى : { فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه } مسائل :
المسألة الأولى : زيدا ضربته وزيد ضربته كلاهما جائز والنصب مختار في مواضع منها هذا الموضع وهو الذي يكون ما يرد عليه النصب والرفع بعد حرف الاستفهام ، والسبب في اختيار النصب أمر معقول وهو أن المستفهم يطلب من المسئول أن يجعل ما ذكره بعد حرف الاستفهام مبدأ لكلامه ويخبر عنه ، فإذا قال : أزيد عندك معناه أخبرني عن زيد واذكر لي حاله ، فإذا انضم إلى هذه الحالة فعل مذكور ترجح جانب النصب فيجوز أن يقال : أزيدا ضربته وإن لم يجب فالأحسن ذلك فإن قيل : من قرأ { أبشر منا واحدا نتبعه } كيف ترك الأجود ؟ نقول : نظرا إلى قوله تعالى : { فقالوا } إذ ما بعد القول لا يكون إلا جملة والاسمية أولى والأولى أقوى وأظهر .
المسألة الثانية : إذا كان بشرا منصوبا بفعل ، فما الحكمة في تأخر الفعل في الظاهر ؟ نقول : قد تقدم مرارا أن البليغ يقدم في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر وهم كانوا يريدون تبيين كونهم محقين في ترك الاتباع فلو قالوا : أنتبع بشرا يمكن أن يقال نعم اتبعوه وماذا يمنعكم من اتباعه ، فإذا قدموا حاله وقالوا هو نوعنا بشر ومن صنفنا رجل ليس غريبا نعتقد فيه أنه يعلم ما لا نعلم أو يقدر مالا نقدر وهو واحد وحيد وليس له جند وحشم وخيل وخدم فكيف نتبعه ، فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع من الاتباع ، واعلم أن في هذه الآية إشارات إلى ذلك ( أحدها ) : نكروه حيث قالوا { أبشرا } ولم يقولوا : أنتبع صالحا أو الرجل المدعي النبوة أو غير ذلك من المعرفات والتنكير تحقير ( ثانيها ) : قالوا أبشرا ولم يقولوا أرجلا ( ثالثها ) : قالوا { منا } وهو يحمل أمرين أحدهما من صنفنا ليس غريبا ، وثانيهما { منا } أي تبعنا يقول القائل لغيره أنت منا فيتأذى السامع ويقول : لا بل أنت منا ولست أنا منكم ، وتحقيقه أن من للتبعيض والبعض يتبع الكل لا الكل يتبع البعض ( رابعها ) : واحدا يحتمل أمرين أيضا ( أحدهما ) : وحيدا إلى ضعفه ( وثانيهما ) : واحدا أي هو من الآحاد لا من الأكابر المشهورين ، وتحقيق القول في استعمال الآحاد في الأصاغر حيث يقال : هو من آحاد الناس هو أن من لا يكون مشهودا بحسب ولا نسب إذا حدث عنه من لا يعرفه فلا يمكن أن يقول عنه قال فلان أو ابن فلان فيقول قال واحد وفعل واحد فيكون ذلك غاية الخمول ، لأن الأرذل لا ينضم إليه أحد فيبقى في أكثر أوقاته واحدا فيقال : للأرذال آحاد .
وقوله تعالى عنهم : { إنا إذا لفي ضلال وسعر } يحتمل وجهين ( أحدهما ) : أن يكونوا قد قالوا في جواب من يقول لهم إن لم تتبعوه تكونوا في ضلال ، فيقولون له : لا بل إن تبعناه نكون في ضلال ( ثانيهما ) : أن يكون ذلك ترتيبا على ما مضى أي حاله ما ذكرنا من الضعف والوحدة فإن اتبعناه نكون في ضلال وسعر أي جنون على هذا الوجه ، فإن قلنا : إن ذلك قالوه على سبيل الجواب فيكون القائل قال لهم : إن لم تتبعوه فإنا إذا في الحال في ضلال وفي سعر في العقبى فقالوا : لا بل لو اتبعناه فإنا إذا في الحال في ضلال وفي سعر من الذل والعبودية مجازا فإنهم ما كانوا يعترفون بالسعير .
المسألة الثالثة : السعير في الآخرة واحد فكيف جمع ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه ( أحدها ) : في جهنم دركات يحتمل أن تكون كل واحدة سعيرا أو فيها سعير ( ثانيها ) : لدوام العذاب عليهم فإنه كلما نضجت جلودهم يبدلهم جلودا كأنهم في كل زمان في سعير آخر وعذاب آخر ( ثالثها ) : لسعة السعير الواحد كأنها سعر يقال للرجل الواحد : فلان ليس برجل واحد بل هو رجال .
{ فقالوا أبشرا منا } من جنسنا أو من حملنا لا فضل له علينا ، وانتصابه بفعل يفسره وما بعده وقرئ بالرفع على الابتداء والأول أوجه للاستفهام . { واحدا } منفردا لا تبع له أو من آحادهم دون أشرافهم . { نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر } جمع سعير كأنه عكسوا عليه فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على ترك اتباعهم له ، وقيل السعر الجنون ومنه ناقة مسعورة .
واحدا نتبعه : واحدا من آحادهم لا من أشرافهم .
لفي ضلال وسُعُر : في بعد بيّن عن الحق . وسُعُر : جمع سعير ، وهي النار المشتعلة أو الجنون .
24- { فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ } .
أنتبع فردا واحدا منا لا يتميز علينا بشيء ؟ إذا فعلنا هذا ، وهو فرد واحد ، ونحن أمة مجتمعة ، نكون في بعد واضح عن الصواب ، وجنون بيّن لأن ذلك بعد عن الصواب ، وجنون بيّن لأن ذلك بعد عن الصواب ، وروي أن صالحا كان يقول لهم : إذا لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق ، وعرَّضتم أنفسكم لعذاب النار ، فعكسوا عليه قوله ، وقالوا : إن اتبعناك كنا كما تقول في بُعد عن الحق وجنون دائم .
{ فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا } أي كائناً من جنسنا على أن الجار والمجرور في موضع الصفة لبشراً وانتصابه بفعل يفسره نتبع بعد أي أنتبع بشراً { واحدا } أي منفرداً لاتبع له ، أو واحداً من آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنكير الدال على عدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه ، وقرأ أبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل . وأبو عمرو الداني أبشر منا واحد برفعهما على أن بشر مبتدأ ، وما بعد صفته ، وقوله تعالى : { نَّتَّبِعُهُ } خبره . ونقل ابن خالويه . وصاحب اللوامح . وابن عطية عن أبي السمال رفع بشر ونصب { واحدا } وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع بشر إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر ، وإما على الابتداء والخبر جملة { نَّتَّبِعُهُ } ، ونصب { واحدا } على الحال إما من ضمير النصب في { نَّتَّبِعُهُ } . وإما من الضمير المستقر في { مِنَّا } وخرج صاحب اللوامح نصب { واحدا } على هذا أيضاً ، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما ، وتقدم الاستفهام يرجح تقدير فعل يرفع به { إِنَّا إِذَا } أي إذا اتبعنا بشراً منا واحداً { لَفِي ضلال } عظيم عن الحق { وَسُعُرٍ } أي نيران جمع سعير .
وروي أن صالحاً عليه السلام كان يقول لهم : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوّهم فقالوا : إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول ، فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب ، وجمع السعير باعتبار الدركات ، أو للمبالغة ، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال : أي لفي بعد عن الحق وعذاب ، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر
: كأن بها ( سعراً ) إذا العيس هزها *** ذميل وإرخاء من السير متعب
{ فقالوا أبشر منا واحداً نتبعه } : أي كيف نتبع بشراً واحداً منا إنكاراً منهم للإيمان بصالح عليه السلام .
{ إنا إذاً لفي ضلال وسعر } : أي إنا إذا اتبعناه فيما جاء به لفي ذهاب عن الصواب وجنون .
فقالوا في تكذيبهم له عليه السلام : { أبشراً منا واحدا نتبعه } أي كيف يتم ذلك منا ويقع ؟ عجبٌ هذا إنا إذاً لفي ضلال وسعر إنا إذا اتبعناه وهو واحد لا غير ومنا أيضا فهو كغيره من أفراد القبيلة لفي بعد عن الصواب وذهاب عن كل رشد ، وسعر أي وجنون أيضا .
فكذبوه واستكبروا عليه ، وقالوا -كبرا وتيها- : { أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ } أي : كيف نتبع بشرا ، لا ملكا منا ، لا من غيرنا ، ممن هو أكبر عند الناس منا ، ومع ذلك فهو شخص واحد { إِنَّا إِذًا } أي : إن اتبعناه وهو بهذه الحال { لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } أي : إنا لضالون أشقياء ، وهذا الكلام من ضلالهم وشقائهم ، فإنهم أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر ، ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر والحجر والصور .