قوله تعالى : { يتنازعون فيها كأسا } فيكون ذلك على عادة الملوك إذا جلسوا في مجالسهم للشرب يدخل عليهم بفواكه ولحوم وهم على الشرب ، وقوله تعالى : { يتنازعون } أي يتعاطون ويحتمل أن يقال التنازع التجاذب وحينئذ يكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة ، وفيه نوع لذة وهو بيان ما هو عليه حال الشراب في الدنيا فإنهم يتفاخرون بكثرة الشرب ولا يتفاخرون بكثرة الأكل ، ولهذا إذا شرب أحدهم يرى الآخر واجبا أن يشرب مثل ما شربه حريفه ولا يرى واجبا أن يأكل مثل ما أكل نديمه وجليسه .
قوله تعالى : { لا لغو فيها ولا تأثيم } وسواء قلنا { فيها } عائدة إلى الجنة أو إلى الكأس فذكرهما لجريان ذكر الشراب وحكايته على ما في الدنيا ، فقال تعالى ليس في الشرب في الآخرة كل ما فيه في الدنيا من اللغو بسبب زوال العقل ومن التأثيم الذي بسبب نهوض الشهوة والغضب عند وفور العقل والفهم ، وفيه وجه ثالث ، وهو أن يقال لا يعتريه كما يعتري الشارب بالشرب في الدنيا فلا يؤثم أي لا ينسب إلى إثم ، وفيه وجه رابع ، وهو أن يكون المراد من التأثيم السكر ، وحينئذ يكون فيه ترتيب حسن وذلك لأن من الناس من يسكر ويكون رزين العقل عديم اعتياد العربدة فيسكن وينام ولا يؤذي ولا يتأذى ولا يهذي ولا يسمع إلى من هذى ، ومنهم من يعربد فقال : { لا لغو فيها } .
{ يتنازعون فيها } يتعاطون هو وجلساؤهم بتجاذب . { كأسا } خمرا سماها باسم محلها ولذلك أنت الضمير في قوله : { لا لغو فيها ولا تأثيم } أي لا يتكلمون بلغو الحديث في أثناء شربها ، ولا يفعلوا ما يؤثم به فاعله كما هو عادة الشاربين في الدنيا ، وذلك مثل قوله تعالى : { لا فيها غول } وقرأهما ابن كثير والبصريان بالفتح .
قوله جلّ ذكره : { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَ كَأْساً لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } .
أي لا يجري بينهم باطلٌ ولا يؤثمهم كما يجري بين الشَّربِ في الدنيا ، ولا يَذْهبُ الشُّرْبُ بعقولهم فيجري بينهم ما يُخْرِِجهم عن حَدِّ الأدبِ والاستقامة .
وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ومِن المعلوم من يسقيهم ، وهم بمشهد منه وعلى رؤية منه ؟
يتنازعون : يتجاذبون تجاذب ملاعبة وسرور .
كأسا : إناء به خمر ، والكأس مؤنث سماعي كالخمر .
لا لغو فيها : أي في شرابها ، فلا يتكلمون في أثناء الشراب بلغو الحديث وسَقَط الكلام .
ولا تأثيم : ولا يُفحشون في القول ، كما هو ديدن النُّدامى في الدنيا ، فإنهم كثيرو اللغو ، فعَّالون للآثام .
23- { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } .
يتجاذبون في الجنة كأس الخمر تَجاذُبَ ملاطفة وفرح وحُبور ، فيما بينهم لشدَّة سرورهم .
نازعته طيّب الراح الشَّمول وقد *** صاح الدجاج وحانت وقعة السَّاري
وليس في شراب الجنة ما في الدنيا من اللغو والباطل والإثم ، عند زوال العقل بسبب الخمر ، وإنما ينطقون بالحِكم وأحاسن الكلام ، ويفعلون ما يفعل الكرام ، وقد مدح الله خمر الجنة بأنها لذة ، وأنها لا تغتال عقول شاربيها ، وأنها لا تنفد ، وأن شكلها أبيض جميل ، وأنها لذيذة الطعم .
قال تعالى : { بيضاء لذّة للشاربين*لا فيها غول ولا هم عنها يُنزفون } .
وقال تعالى : { لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزفون } . ( الواقعة : 19 )
{ يتنازعون فِيهَا كَأْساً } أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل
: نازعته طيب الراح الشمول وقد *** صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقيل : التنازع مجاز عن التعاطي ، والكأس مؤنث سماعي كالخمر ، ولا تسمى كأساً على المشهور إلا إذا امتلأت خمراً أو كانت قريبة من الامتلاء ، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازاً لعلاقة المجاورة ، وقال الراغب : الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأساً ، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر ، وبعضهم بالخمر ، والأول : أوفق بالتجاذب ، والثاني : بقوله سبحانه : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام { وَلاَ تَأْثِيمٌ } ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام ، وقرأ ابن كثير . وأبو عمرو { لاَّ لَغْوٌ } { وَلاَ تَأْثِيمٌ } بفتحهما .
{ يتنازعون فيها كأسا } : أي يتعاطون بينهم فيها أي في الجنة كأساً من خمر .
{ لا لغو فيها ولا تأثيم } : أي لا يقع لهم بسبب شربها لغو وهو كل كلام لا خير فيه ولا إثم .
أما الشراب فإنهم يتنازعون أي يتعاطون في الجنة كأساً من خمر لا لغو فيها . أي لا تسبب هذياناً من الكلام إذ اللغو الكلام الذي لا فائدة منه . وقوله : { ولا تأثيم } أي وليس في شربها إثم .
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا } أي : تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم ، ويتعاطونها فيما بينهم ، وتطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأس { لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ } أي : ليس في الجنة كلام لغو ، وهو الذي لا فائدة فيه ولا تأثيم ، وهو الذي فيه إثم ومعصية ، وإذا انتفى الأمران ، ثبت الأمر الثالث ، وهو أن كلامهم فيها سلام طيب طاهر ، مسر للنفوس ، مفرح للقلوب ، يتعاشرون أحسن عشرة ، ويتنادمون أطيب المنادمة ، ولا يسمعون من ربهم ، إلا ما يقر أعينهم ، ويدل على رضاه عنهم [ ومحبته لهم ] .