{ وما ينطق عن الهوى } أي هو راكب متنه آخذ سمت المقصود ، وذلك لأن من يسلك طريقا ليصل إلى مقصده فربما يبقى بلا طريق ، وربما يجد إليه طريقا بعيدا فيه متاعب ومهالك ، وربما يجد طريقا واسعا آمنا ، ولكنه يميل يمنة ويسرة فيبعد عنه المقصد ، ويتأخر عليه الوصول ، فإذا سلك الجادة وركب متنها كان أسرع وصولا ، ويمكن أن يقال { وما ينطق عن الهوى } دليل على أنه ما ضل وما غوى ، تقديره : كيف يضل أو يغوى وهو لا ينطق عن الهوى ، وإنما يضل من يتبع الهوى ، ويدل عليه قوله تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } فإن قيل ما ذكرت من الترتيب الأول على صيغة الماضي في قوله { ما ضل } وصيغة المستقبل في قوله { وما ينطق } في غاية الحسن ، أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره { وما غوى } حين اختلى بنفسه ورأى منامه ما رأى { وما ينطق عن الهوى } الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولا شاهدا عليكم ، فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا ، وصار الآن منقذا من الضلالة ومرشدا وهاديا .
وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة ؟ نقول بلى ، وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر ، والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب ، فقال تعالى : { ما ضل } في صغره ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وأحسن ما يقال في تفسير { الهوى } أنها المحبة ، لكن من النفس يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية ، فالنفس إذا كانت دنيئة ، وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء ، ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة ، لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة ، فإنها مستعملة في موضع المدح ، والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى : { فأما من طغى وءاثر الحياة الدنيا } إلى قوله { ونهى النفس عن الهوى } إشارة إلى علو مرتبة النفس .
قوله جلّ ذكره : { وَمَا ينطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وحيٌ يُوحَى } .
أي ما ينطق بالهوى ، وما هذا القرآنُ إلا وحيٌ يُوحَى . وفي هذا أيضاً تخصيصٌ له بالشهادة ؛ إذ قال لداود : { فَاحْكُم بَيْنَ النَّاس بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى } [ ص : 26 ] .
وقال في صفة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } .
{ ومتى ينطق عن الهوى } وهو في محل النجوى ؟ في الظاهر مزمومٌ بزمام التقوى ، وفي السرائر في إيواء المولى ، مُصَفَّى عن كدورات البشرية ، مُرَقَّى إلى شهود الأَحَدِية ، مُكاشَفٌ بجلالِ الصمدية ، مُخْتَطفٌ عنه بالكُلِّيَّة ، لم تبقَ منه إلا للحقِّ بالحقِّ بقية . . . ومَنْ كان بهذا النعت . . . متى ينطق عن الهوى ؟
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ( 4 ) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ( 7 ) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 ) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 ) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 12 ) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ( 14 ) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ( 18 ) }
ما ضلّ : ما حاد عن الطريق المستقيم .
صاحبكم : محمد صلى الله عليه وسلم .
وما غوى : ما اعتقد باطلا ، والخطاب في هذا لقريش .
وما ينطق عن الهوى : ما يتكلم بالباطل .
1 ، 2 ، 3 ، 4- { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
يقسم الله تعالى بالنجم الذي يُهتدى به في ظلمات البر والبحر .
والنجوم عالم كبير متحرك ، له مسارات منتظمة لا تصطدم ببعضها ، بل تسير بحكمة الله وقدرته الذي يمسك بنظام هذا الكون .
قال تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . ( الواقعة : 75-80 )
يقسم الله بالنجوم عند إدبارها آخر الليل ، أو بالنجم الذي يهوي شهابا ثاقبا فيقتل الشياطين أو يخبلها .
وكانت الشياطين ترصّ بعضها فوق بعض ، حتى يكون آخر شيطان يستطيع أن يتسمَّع إلى كلام الملائكة ، فيسترق السمع ، ويخبر به الكهَّان ، فيكذب الكاهن مع هذا الأمر مائة كذبة ، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم شُدَّت الحراسة على السماء ، فمن حاول استماع الغيب أصابه شهاب ثاقب ( نجم يهوى ) فيقتله أو يخبله ، فلما أخبرت الجنّ رئيسها بذلك ، قال لهم : انطلقوا في الأرض فانظروا ما حدث فيها ، فانطلقت طائفة إلى مكة ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ببطن نخلة يقرأ القرآن ، وقد وردت هذه المعاني في صدر سورة الجن ، وفي حديث نبوي شريف بالجامع الصحيح للإمام البخاري .
وفي أول سورة الجن يقول تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } . ( الجن : 1-2 ) .
وفي الآيتين ( 8-9 ) من سورة الجن يقول الله تعالى : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } . ( الجن : 8-9 )
أقسم الله تعالى بالنجم الذي يهوى شهابا ثاقبا ، وسهما مصيبا يقتل الجنّي أو يخبله ، أو أقسم بالنجوم عند إدبارها في آخر الليل ، أو أقسم بنجم الشعرى ، وكان بعض العرب يعبده ، وكان قدماء المصريين يوقنون فيضان النيل ، بعبور الشّعرى بالفلك الأعلى ، ويرصدونه من أجل ذلك ، ويرقبون حركاته ، وللشّعرى في شأن أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء .
وقيل : أقسم الله بالثّريا ، وقيل : أقسم بجنس النجم الذي له هذه الصفات الجليلة ، والحركة المنتظمة .
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } . ما بعُد محمد صلى الله عليه وسلم عن الحقّ ، وما غاب عن الهدى .
{ وما غوى } : وما خاب ولا انخرط في سلك الجهال الضالين ، بل هو راشد مهتد ، يحمل النّور والهدى ، كما يحمل النجم الضوء للسّارين ، وإن جبريل لينزل عليه في سرعة النجم إذا هوى .
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } : إن كلامه وحديثه وأقواله لا تصدر عن هوى وغرض .
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
إن ما ينطق به محمد صلى الله عليه وسلم هو وحي السماء ، هو القرآن الكريم الذي ينقله جبريل عن الله عز وجل ، ثم يتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل بواسطة الوحي .
وقد قال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه ، حيث كان يرغب في كتابة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.