مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (8)

واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال : { أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : النيران على أقسام : النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق ، صاعدا بالطبع ، والإقرار به واجب ، لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق .

القسم الثاني : النار الروحانية العقلية ، وتقريره أن من أحب شيئا حبا شديدا ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه ، فإنه يحترق قلبه وباطنه ، وكل عاقل يقول : إن فلانا محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب . وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة .

إذا عرفت هذا فنقول : إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات ، فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته ، وهي أحوال هذا العالم ، وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم ، فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها ، ولا معرفة له بأحوالها ، فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة ، وتألم الروح فكذا هنا ، أما لو كان نفورا عن هذه الجسمانيات عارفا بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى ، عظيم الحب لله ، كان مثاله مثال من كان محبوسا في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة ، ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء ، كما قال تعالى { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية .

المسألة الثانية : الباء في قوله : { بما كانوا يكسبون } مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى : { ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد }