مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَآئِمٗا فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ يَدۡعُنَآ إِلَىٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡمُسۡرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (12)

قوله تعالى { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه ، فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه ، ليكون ذلك مؤكدا لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات . الثاني : أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب ، ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال ، لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه ، فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقا في هذا الطلب .

المسألة الثانية : المقصود من هذه الآية ، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء ، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء ، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعا أو قائما أو قاعدا مجتهدا في ذلك الدعاء طالبا من الله تعالى إزالة تلك المحنة ، وتبديلها بالنعمة والمنحة ، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر ، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام ، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره ، وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على أن هذه الطريقة مذمومة ، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء ، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية . حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء »

واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة ، وجب عليه رعاية أمور : فأولها : أن يكون راضيا بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه . وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق . فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء ، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث ، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل ، وإن أزالها عنه فهو فضل ، وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب . وثانيها : أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى والثناء عليه بدلا عن الدعاء كان أفضل ، لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة « من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين » ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق ، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس ، ولا شك أن الأول أفضل ، ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحا في الدين ، وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحا عنده على الدنيا . وثالثها : أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء ، وأحوال الشدة والرخاء ، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء . وههنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه ، وهو أن أهل التحقيق قالوا : إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولا بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولا بالبلاء لا بالمبلي ، ومثل هذا الشخص يكون أبدا في البلاء ، أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء ، وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من زوالها يكون أشد أنواع البلاء ، فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل ، كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشا ، فثبت أن من كان مشغولا بالنعمة كان أبدا في لجة البلية . أما من كان في وقت النعمة مشغولا بالمنعم ، لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولا بالمبلي . وإذا كان المنعم والمبلي واحدا ، كان نظره أبدا على مطلوب واحد ، وكان مطلوبه منزها عن التغير مقدسا عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء ، غرقا في بحر السعادات ، واصلا إلى أقصى الكمالات ، وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له ، ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر .

المسألة الثالثة : اختلفوا في { الإنسان } في قوله : { وإذا مس الإنسان الضر } فقال بعضهم : إنه الكافر ، ومنهم من بالغ وقال : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان ، فالمراد هو الكافر ، وهذا باطل ، لأن قوله : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتى كتابه بيمينه } لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه ، وكذلك قوله : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } وقوله : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } وقوله : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } فالذي قالوه بعيد ، بل الحق أن نقول : اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه ، وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صونا له عن الإجمال والتعطيل . ولفظ { الإنسان } ههنا لائق بالكافر ، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة .

المسألة الرابعة : في قوله : { دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما } وجهان :

الوجه الأول : أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله : { لجنبه } في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه ، والتقدير : دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما .

فإن قالوا : فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟

قلنا : معناه : إن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر ، سواء كان مضطجعا أو قاعدا أو قائما .

والوجه الثاني : أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديدا لأحوال الضر ، والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما دعانا وهو قول الزجاج . والأول : أصح ، لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر ، ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء ، ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب .

المسألة الخامسة : في قوله : { مر } وجوه الأول : المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد . الثاني : مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به .

المسألة السادسة : قوله تعالى : { كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } تقديره : كأنه لم يدعنا ، ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى : { كأن لم يلبثوا } قال الحسن : نسي ما دعا الله فيه ، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه .

المسألة السابعة : قال صاحب «النظم » : قوله : { وإذا مس الإنسان } { إذا } موضوعة للمستقبل .

ثم قال : { فلما كشفنا } وهذا للماضي ، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل . فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي ، وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر ، وجبل أيضا على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو ، فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع ، وإظهار الخضوع والانقياد ، وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه ، ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران . فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته ، وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم .

المسألة الثامنة : في قوله تعالى : { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } أبحاث :

البحث الأول : أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان ، فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم .

البحث الثاني : في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحانه الكافر مسرفا . وفيه وجوه :

الوجه الأول : قال أبو بكر الأصم : الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما ، أما في النفس فلأنه جعلها عبدا للوثن ، وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام .

الوجه الثاني : قال القاضي : إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء ، وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضا عن ذكر الله متغافلا عنه غير مشتغل بشكره ، كان مسرفا في أمر دينه متجاوزا للحد في الغفلة عنه ، ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفا في الإنفاق فكذلك يكون مسرفا فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح ، إذا تجاوز الحد فيه .

الوجه الثالث : وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت ، أن المسرف هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس ، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جدا في مقابلة سعادات الدار الآخرة . والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة ، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة ، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة ، لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة ، فوجب أن يكون من المسرفين .

البحث الثالث : الكاف في قوله تعالى : { كذلك } للتشبيه . والمعنى : كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكر زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات .