مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (10)

المرتبة الثانية : من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى : { دعواهم فيها سبحانك اللهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في { دعواهم } وجوه : الأول : أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء ، يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى ، كما يقال : شكى يشكو شكاية وشكوى . قال بعض المفسرين : { دعواهم } أي دعاؤهم . وقال تعالى في أهل الجنة : { لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون } وقال في آية أخرى { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء ، هو أنهم قالوا : اللهم . وهذا نداء لله سبحانه وتعالى ، ومعنى قولهم : { سبحانك اللهم } إنا نسبحك ، كقول القانت في دعاء القنوت : «اللهم إياك نعبد » الثاني : أن يراد بالدعاء العبادة ، ونظيره قوله تعالى : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } أي وما تعبدون . فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف ، بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى . الثالث : قال بعضهم : لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم . والمعنى : أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية . قال القفال : أصل ذلك أيضا من الدعاء ، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما . الرابع : قال مسلم : { دعواهم } أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم ، وذلك هو قولهم : { سبحانك اللهم } الخامس : قال القاضي : المراد من قوله : { دعواهم } أي طريقتهم في تمجيد الله تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم . والدليل على أن المراد ذلك أن قوله : { سبحانك اللهم } ليس بدعاء ولا بدعوى ، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظبا على ذكره ، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة . فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر ، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها .

السادس : قال القفال : قيل في قوله : { لهم ما يدعون } أي ما يتمنونه ، والعرب تقول : ادع ما شئت علي ، أي تمن . وقال ابن جريج : أخبرت أن قوله : { دعواهم فيها سبحانك اللهم } هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا { سبحانك اللهم } فيأتيهم الملك بذلك المشتهى ، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه ، على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللهم ، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني ، وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم ، وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا الله تعالى ، أي تمنيهم لما يتمنونه ، ليس إلا في تسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه . السابع : قال القفال أيضا : ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه ، كقولهم : يا آل فلان ، فأخبر الله تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم الله تعالى ، وسكونهم بتحميدهم الله . ولذتهم بتمجيدهم الله تعالى .

المسألة الثانية : أن قوله : { سبحانك اللهم } فيه وجهان :

الوجه الأول : قول من يقول : إن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج : إذا مر بهم طيرا اشتهوه ؛ قالوا سبحانك اللهم فيؤتون به ، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا : { الحمد لله رب العالمين } وقال الكلبي : قوله : { سبحانك اللهم } علم بين أهل الجنة والخدام ، فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون . واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جدا ، وبيانه من وجوه : أحدها : أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح ، وهذا في غاية الخساسة . وثانيها : أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة : { ولهم ما يشتهون } فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير ، فلا حاجة بهم إلى الطلب ، وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب ، فقد سقط هذا الكلام . وثالثها : أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به ، وهذا باطل .

الوجه الثاني : في تأويل هذه الآية أن نقول : المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس الله سبحانه وتمجيده والثناء عليه ، لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به ، وكمال حالهم لا يحصل إلا منه ، وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه . ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه : أحدها : قال القاضي : إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم ، كما ذكر في أول هذه السورة من قوله : { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، ووجدوا تلك النعم العظيمة ، عرفوا أن الله تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم ، فعند هذا قالوا : { سبحانك اللهم } أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول . وثانيها : أن نقول : غاية سعادة السعداء ، ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال .

واعلم أن معرفة ذات الله تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه ، بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية . أما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال ، وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام ، فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصور عليها ، كما قال سبحانه وتعالى : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات ، لا جرم كان ذكر الجلال متقدما على ذكر الإكرام في اللفظ . وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين ، لا جرم ذكر الله سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس ، ولما كان لا نهاية لمعارج جلال الله ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه ، فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية . وثالثها : أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر ، ألا ترى أنهم قالوا : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم ، حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد ، ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي ، فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام ، بعد انقراض العالم ، ولما كان هذا الذكر مشتملا على هذا الشرف العالي ، لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة ، فإن المصلي إذا كبر قال : «سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك » .

المرتبة الثالثة : من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } قال المفسرون : تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام ، وتحية الملائكة لهم بالسلام ، كما قال تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } وتحية الله تعالى لهم أيضا بالسلام كما قال تعالى : { سلام قولا من رب رحيم } قال الواحدي : وعلى هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول ، وعندي فيه وجه آخر : وهو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة ، مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات وفي معرض المخافات ، فإذا أخرجوا من الدنيا ووصلوا إلى كرامة الله تعالى ، فقد صاروا سالمين من الآفات ، آمنين من المخافات والنقصانات . وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله : { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب }

المرتبة الرابعة : من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب . فقالوا : إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئا قالوا : سبحانك اللهم وبحمدك ، وإذا أكلوا وفرغوا . قالوا : الحمد لله رب العالمين ، وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب ، وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم . وأما المحقون المحققون ، فقد تركوا ذلك ، ولهم فيه أقوال . روى الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم " وقال الزجاج : أعلم الله تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه . ويختتمون بشكره والثناء عليه ، وأقول : عندي في هذا الباب وجوه أخر : فأحدها : أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللهم وبحمدك ، وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات ، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية ، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه ، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء . فقالوا : { الحمد لله رب العالمين } وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح الله تعالى وتمجيده من أعظم نعم الله تعالى عليهم . والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة ، فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة ، وثانيها : أن لكل إنسان بحسب قوته معراجا ، فتارة ينزل عن ذلك المعراج ، وتارة يصعد إليه . ومعراج العارفين الصادقين ، معرفة الله تعالى وتسبيح الله وتحميد الله ، فإذا قالوا : { سبحانك اللهم } فهم في عين المعراج ، وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات . كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين وإليه الإشارة بقوله : { وتحيتهم فيها سلام } ثم أنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه ، وعند الصعود يقول : { الحمد لله رب العالمين } فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج . وثالثها : أن نقول : إن قولنا الله اسم لذات الحق سبحانه ، فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال ، وهي المشار إليها بقوله : { سبحانك } ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات ، ترقيا يليق بالطاقة البشرية ، وهي المشار إليها بقوله : { اللهم } فإذا عرج عن ذلك المكان . واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام ، وهو المشار إليه بقوله : { الحمد لله رب العالمين } فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال ، فإن حقت فالتوفيق من الله تعالى ، وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة الله تعالى .

المسألة الثانية : قال الواحدي : { أن } في قوله : { أن الحمد لله } هي المخففة من الشديدة ، فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله :

أن هالك كل من يخفى وينتعل

على معنى أنه هالك . وقال صاحب «النظم » { أن } ههنا زائدة ، والتقدير : وآخر دعواهم الحمد لله رب العالمين ، وهذا القول ليس بشيء ، وقرأ بعضهم { أن } الحمد لله بالتشديد ، ونصب الحمد .