مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ يَهۡدِيهِمۡ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمۡۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ} (9)

قوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم }

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة ، ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين ، واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولا ، ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات الرفيعة ثانيا ، أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وفي تفسيره وجوه :

الوجه الأول : أن النفس الإنسانية لها قوتان :

القوة النظرية : وكمالها في معرفة الأشياء ، ورئيس المعارف وسلطانها معرفة الله .

والقوة العملية : وكمالها في فعل الخيرات والطاعات ، ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة الله . فقوله : { إن الذين آمنوا } إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله تعالى وقوله : { وعملوا الصالحات } إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة الله تعالى ، ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة ، لا جرم وجب تقديمها في الذكر .

الوجه الثاني : في تفسير هذه الآية قال القفال : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي صدقوا بقلوبهم ، ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله تعالى .

الوجه الثالث : { الذين آمنوا } أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة { وعملوا الصالحات } أي شغلوا جوارحهم بالخدمة ، فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى كما قال : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول } ولسانهم مشغول بذكر الله كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله } وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله كما قال : { ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض }

واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة .

المرتبة الأولى : قوله : { يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات النعيم }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تفسير قوله : { يهديهم ربهم بإيمانهم } وجوه : الأول : أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة ، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه : أحدها : قوله تعالى : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } وثانيها : ما روي أنه عليه السلام قال : « إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار » وثالثها : قال مجاهد : المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة . ورابعها : وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس ، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس ، فإن حصل هذا الخط النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى عالم القدس ، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ بالله منه .

والتأويل الثاني : قال ابن الأنباري : إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم ، وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم ، كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى } وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت ، قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا الوجه . كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ، إلا أن حذف الواو وجعل قوله : { تجري } خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله :

والتأويل الثالث : أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات .

المقدمة الأولى : أن العلم نور والجهل ظلمة . وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك ، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين ، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر ، فإنك ترى وجه الفاهم متهللا مشرقا مضيئا ، ووجه من لم يفهم عبوسا مظلما منقبضا ، ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور ، وعن الجهل والكفر بالظلمات .

والمقدمة الثانية : أن الروح كاللوح ، والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح . ثم ههنا دقيقة ، وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه ، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك ، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم ، فإذا احتال وحصل شيء منها ، كان حصول ما حصل منها معينا له على سهولة تحصيل الباقي ، وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل ، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعا من حصول الباقي ، والنقوش الروحانية يكون بعضها معينا على حصول البقية ، وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني .

المقدمة الثالثة : أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة ، والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك .

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة ، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا ، وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد ، وكلما كان الاستعداد أقوى وأكمل كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى ، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية ، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى : { يهديهم ربهم بإيمانهم } .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { تجري من تحتهم الأنهار } المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم ، ونظيره قوله تعالى : { قد جعل ربك تحتك سريا } وهي ما كانت قاعدة عليها ، ولكن المعنى بين يديك ، وكذا قوله : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } المعنى بين يدي فكذا ههنا .

المسألة الثالثة : الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضا من جنس المعارف ، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم . بل قال : { يهديهم ربهم بإيمانهم } وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة ، ثم إذا حصل هذا الاستعداد ، كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى . وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق ، ليس إلا الله سبحانه وتعالى .