مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن هذه السورة مكية إلا قوله : { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين } فإنها مدنية نزلت في اليهود .

قوله جل جلاله { الر } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وعاصم { الر } بفتح الراء على التفخيم ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر : بكسر الراء على الإمالة . وروي عن نافع وابن عامر وحماد عن عاصم ، بين الفتح والكسر ، واعلم أن كلها لغات صحيحة . قال الواحدي : الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو ما ولا ، لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء ، وأما من أمال فلأن هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة ، فقصد بذكر الإمالة التنبيه على أنها أسماء لا حروف .

المسألة الثانية : اتفقوا على أن قوله { الر } وحده ليس آية ، واتفقوا على أن قوله { طه } [ طه : 1 ] وحده آية . والفرق أن قوله : { الر } لا يشاكل مقاطع الآية التي بعده بخلاف قوله : { طه } فإنه يشاكل مقاطع الآية التي بعده .

المسألة الثالثة : الكلام المستقصي في تفسير هذا النوع من الكلمات قد تقدم في أول سورة البقرة إلا أنا نذكر ههنا أيضا بعض ما قيل . قال ابن عباس { الر } معناه أنا الله أرى . وقيل أنا الرب لا رب غيري . وقيل { الر } و { حم } و { ن } اسم الرحمن .

قوله تعالى : { تلك آيات الكتاب الحكيم } فيه مسألتان :

المسألة الأولى : قوله : { تلك } يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن ، وأيضا فالكتاب الحكيم يحتمل أن يكون المراد منه هو القرآن ، ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن ، وهو الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي منه نسخ كل كتاب ، كما قال تعالى : { إنه لقرءان كريم في كتاب مكنون } وقال تعالى : { بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ } وقال : { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم } وقال : { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب }

وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل ههنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات :

الاحتمال الأول : أن يقال : المراد من لفظة { تلك } الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة ، فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن ، وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ، ولا يغيره كرور الدهر ، فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة { الر } هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء .

الاحتمال الثاني : أن يقال : المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند الله .

واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا : { تلك } إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال ، وهو أن { تلك } يشار بها إلى الغائب ، وآيات هذه السورة حاضرة ، فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ { تلك } .

واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى : { الم ذلك الكتاب }

الاحتمال الثالث والرابع : أن يقال : لفظ { تلك } إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن ، والمراد بها : هي آيات القرآن الحكيم ، والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند الله تعالى ، وفي الآية قولان آخران : أحدهما : أن يكون المراد من { الكتاب الحكيم } التوراة والإنجيل ، والتقدير : إن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل ، والمعنى : أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل ، مع أن محمدا عليه الصلاة والسلام ما كان عالما بالتوراة والإنجيل ، فحصول هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص الله تعالى محمدا بإنزال الوحي عليه . والثاني : وهو قول أبي مسلم : أن قوله : { الر } إشارة إلى حروف التهجي ، فقوله : { الر تلك آيات الكتاب } يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت علامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي . فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز ، وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم ، دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالا .

المسألة الثانية : في وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه : الأول : أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة . الثاني : أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به . قال الأعشى :

وغريبة تأتي الملوك حكيمة*** قد قلتها ليقال من ذا قالها

الثالث : قال الأكثرون { الحكيم } بمعنى الحاكم ، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس } فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها ، وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها ، وكالحاكم على أن محمدا صادق في دعوى النبوة ، لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام ، ليست إلا القرآن الرابع : أن { الحكيم } بمعنى المحكم . والأحكام معناه المنع من الفساد ، فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء ، ولا تحرقه النار ، ولا تغيره الدهور . أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض . الخامس : قال الحسن : وصف الكتاب بالحكيم ، لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه ، فعلى هذا { الحكيم } يكون معناه المحكوم فيه . السادس : أن { الحكيم } في أصل اللغة : عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب ، فكان وصف القرآن به مجازا ، ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب ، فمن حيث إنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه .