مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

ثم قال تعالى : { إلا من رحم ربك } احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ، وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته ، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار ، فلم يبق إلا أن يقال : تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة . قال القاضي معناه : إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب ، فيرحمه الله بالثواب ، ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه ، فصار مؤمنا بألطافه وتسهيله ، وهذان الجوابان في غاية الضعف .

أما الأول : فلأن قوله : { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة ، فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف ، والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف ، فالاختلاف جار مجرى المسبب له ، ومجرى المعلول ، فحمل هذه الرحمة على الثواب بعيد .

وأما الثاني : وهو حمل هذه الرحمة على الألطاف فنقول : جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضا في حق الكافر ، وهذه الرحمة أمر مختص به المؤمن ، فوجب أن يكون شيئا زائدا على تلك الألطاف ، وأيضا فحصول تلك الألطاف هل يوجب رجحان وجود الإيمان على عدمه أو لا يوجبه ، فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يك لطفا فيه ، وإن أوجب الرجحان فقد بينا في «الكتب العقلية » أنه متى حصل الرجحان فقد وجب ، وحينئذ يكون حصول الإيمان من الله ، ومما يدل على أن حصول الإيمان لا يكون إلا بخلق الله ، أنه ما لم يتميز الإيمان عن الكفر ، والعلم عن الجهل ، امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم ، وإنما يحصل هذا الامتياز إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقا للمعتقد وكون الآخر ليس كذلك ، وإنما يصح حصول هذا العلم ، أن لو عرف أن ذلك المعتقد في نفسه كيف يكون ، وهذا يوجب أنه لا يصح من العبد القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالما ، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم والهداية لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وهو المطلوب .

ثم قال تعالى : { ولذلك خلقهم } وفيه ثلاثة أقوال :

القول الأول : قال ابن عباس : وللرحمة خلقهم ، وهذا اختيار جمهور المعتزلة ، قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما ، وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة ، والاختلاف أبعدهما . والثاني : أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان ، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه ، إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف . الثالث : إذا فسرنا الآية بهذا المعنى ، كان مطابقا لقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .

فإن قيل : لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال : ولتلك خلقهم ولم يقل : ولذلك خلقهم .

قلنا : إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثا حقيقيا ، فكان محمولا على الفضل والغفران كقوله : { هذا رحمة من ربى } وقوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } .

والقول الثاني : أن المراد وللاختلاف خلقهم .

والقول الثالث : وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف . روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا ، وأهل العذاب لأن يختلفوا ، وخلق الجنة وخلق لها أهلا ، وخلق النار وخلق لها أهلا ، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه : الأول : الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلا بتخليق الله تعالى . الثاني : أن يقال : إنه تعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة وعلم ذلك امتنع انقلاب ذلك ، وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وهو محال . الثالث : أنه تعالى قال بعده : { وتمت كلمة ربك لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين } وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقواما للهداية والجنة ، وأقواما آخرين للضلالة والنار ، وذلك يقوي هذا التأويل .