مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مُنذِرٞۖ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (65)

قوله تعالى : { قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار ، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ، قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ، ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ، إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين }

اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا الله واحد ، وإلى أنه رسول مبين من عند الله ، وإلى أن القول بالقيامة حق ، فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب واستهزؤا بقوله ، ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين الأول : ليصير ذلك حاملا لمحمد صلى الله عليه وسلم على التأسي بالأنبياء عليهم السلام في الصبر على سفاهة القوم والثاني : ليصير ذلك رادعا للكفار على الإصرار على الكفر والسفاهة وداعيا إلى قبول الإيمان ، ولما تمم الله تعالى ذلك الطريق أردفه بطريق آخر وهو شرح نعيم أهل الثواب وشرح عقاب أهل العقاب ، فلما تمم الله تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي تقرير التوحيد والنبوة والبعث ، فقال قل يا محمد إنما أنا منذر ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار ، فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شبهات الخصوم أولا ويجاب عنها ثم نذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب ، فكذا ههنا أجاب الله تعالى عن شبهتهم ونبه على فساد كلماتهم ، ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب ، لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي ، وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه ، ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم .

أما قوله : { قل إنما أنا منذر } يعني أبلغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد ، وأحوال ثواب من أقربها ، وكما بدأ في أول السورة بأدلة التوحيد حيث حكى عنهم أنهم قالوا { أجعل الآلهة إلها واحدا } فكذلك بدأ ههنا بتقرير التوحيد فقال : { وما من إله إلا الله الواحد القهار } وفي هذه الكلمة إشارة إلى الدليل الدال على كونه منزها عن الشريك والنظير ، وبيانه أن الذي يجعل شريكا له في الإلهية ، إما أن يكون موجودا قادرا على الإطلاق على التصرف في العالم أو لا يكون كذلك ، بل يكون جمادا عاجزا والأول : باطل لأنه لو كان شريكه قادرا على الإطلاق لم يكن هو قادرا قاهرا ، لأن بتقدير أن يريد هو شيئا ويريد شريكه ضد ذلك الشيء لم يكن حصول أحد الأمرين أولى من الآخر ، فيفضي إلى اندفاع كل واحد منهما بالآخر ، وحينئذ لا يكون قادرا قاهرا بل كان عاجزا ضعيفا ، والعاجز لا يصلح للإلهية ، فقوله : { إلا الله الواحد القهار } إشارة إلى أن كونه قهارا يدل على كونه واحدا وأما الثاني : وهو أن يقال إن الذي جعل شريكا له لا يقدر على شيء البتة مثل هذه الأوثان ، فهذا أيضا فاسد لأن صريح العقل يحكم بأن عبادة الإله القادر القاهر أولى من عبادة الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فقوله : { وما من إله إلا الله الواحد القهار } يدل على هذه الدلائل ، واعلم أن كونه سبحانه قهارا مشعر بالترهيب والتخويف .