مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (76)

فأجاب إبليس بقوله : { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } فالمعنى أني لو كنت مساويا له في الشرف لكان يقبح أمري بسجودي له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيرا منه بأن أصله من النار والنار أشرف من الطين ، فصح أن أصله خير من أصل آدم ومن كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه فهذه مقدمات ثلاثة :

المقدمة الأولى : أن إبليس مخلوق من النار ، يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : { خلقتني من نار وخلقته من طين } وقوله تعالى : { والجآن خلقناه من قبل من نار السموم } .

المقدمة الثانية : أن النار أفضل من الطين ويدل عليه وجوه الأول : أن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها عنه فوجب كون النار أفضل من الأرض الثاني : أن النار خليفة الشمس والقمر في إضاءة هذا العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض ، فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض الثالث : أن الكيفية الفاعلة الأصلية ، إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت الرابع : الأرض كثيفة والنار لطيفة واللطافة أشرف من الكثافة الخامس : النار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة السادس : النار خفيفة تشبه الروح والأرض ثقيلة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض ولذلك فإن الأطباء أطبقوا على أن العنصرين الثقيلين أعون على تركيب الأجساد وأن العنصرين الخفيفين أعون على تولد الأرواح السابع : النار صاعدة والأرض هابطة والصاعد أفضل من الهابط الثامن : أن أول بروج الفلك هو الحمل لأنه هو الذي يبدأ من نقطة الاستواء الشمالي ، ثم إن الحمل على طبيعة النار وأشرف أعضاء الحيوان والقلب والروح وهما على طبيعة النار وأخس أعضاء الحيوان هو العظم وهو بارد يابس أرضي التاسع : أن الأجسام الأرضية كلما كانت أشد نورانية ومشابهة بالنار كانت أشرف وكلما كانت أكثر غبرة وكثافة وكدورة ومشابهة بالأرض كانت أخس ، مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب والياقوت والأحجار الصافية النورانية ومثاله أيضا من الثياب الإبريسم وما يتخذ منه ، وأما أن كل ما كان أكثر أرضية وغبرة فهو أخس فالأمر ظاهر العاشر : أن القوة الباصرة قوة في غاية الشرف والجلالة ولا يتم عملها إلا بالشعاع وهو جسم شبيه بالنار الحادي عشر : أن أشرف أجسام العالم الجسماني هو الشمس ولا شك أنه شبيه بالنار في صورته وطبيعته وأثره الثاني عشر : أن النضج والهضم والحياة لا تتم إلا بالحرارة ولولا قوة الحرارة لما تم المزاج وتولدت المركبات الثالث عشر : أن أقوى العناصر الأربعة في قوة الفعل هو النار وأكملها في قوة الانفعال هو الأرض والفعل فضل من الانفعال فالنار أفضل من الأرض . أما القائلون بتفضيل الأرض على النار فذكروا أيضا وجوها الأول : أن الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها الثاني : أن الحس البصري أثنى على النار فليستمع ما يقوله الحس اللمسي الثالث : أن الأرض مستولية على النار فإنها تطفئ النار ، وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة .

وأما المقدمة الثالثة : فهي أن من كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه ، فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جدا وذلك لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة هو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد ، وأيضا فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضا بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه ، إلا أن الذي لا يكون نسبيا قد يكون كثير العلم والزهد فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها ، فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة ، فإن قال قائل هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة ؟ وبيان هذا السؤال من وجوه الأول : أن قوله : { اسجدوا } أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلا عن الكفر ، وأيضا فالذين يقولون إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملا للندب احتمالا ظاهرا ومع قيام هذا الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر الثاني : هب أنه للوجوب إلا أن إبليس ما كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لا يدخل فيه إبليس الثالث : هب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس الرابع : هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأمورا به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر الجواب : هب أن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب ، وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى : { أستكبرت أم كنت من العالين } فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر .