مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا} (73)

{ ولئن أصابكم فضل من الله } من ظفر وغنيمة ليقولن : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { كأن لم تكن } بالتاء المنقطة من فوق يعني المودة ، والباقون بالياء لتقدم الفعل . قال الواحدي : وكلا القراءتين قد جاء به التنزيل . قال : { قد جاءتكم موعظة من ربكم } وقال في آية أخرى : { فمن جاءه موعظة من ربه } فالتأنيث هو الأصل والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي ، سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل .

المسألة الثانية : قرأ الحسن { ليقولن } بضم اللام أعاد الضمير إلى معنى «من » لأن قوله : { لمن ليبطئن } في معنى الجماعة ، إلا أن هذه القراءة ضعيفة لأن «من » وإن كان جماعة في المعنى لكنه مفرد في اللفظ ، وجانب الأفراد قد ترجح في قوله : { قال قد أنعم الله على } وفي قوله : { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } .

المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : لو كان التنزيل هكذا : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كان النظم مستقيما حسنا ، فكيف وقع قوله : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } في البين ؟

وجوابه : أنه اعتراض وقع في البين وهو في غاية الحسن ، بيانه أنه تعالى حكى عن هذا المنافق أنه إذا وقعت للمسلمين نكبة أظهر السرور الشديد بسبب أنه كان متخلفا عنهم ، ولو فازوا بغنيمة ودولة أظهر الغم الشديد بسبب فوات تلك الغنيمة ، ومثل هذه المعاملة لا يقدم عليها الإنسان إلا في حق الأجنبي العدو ، لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه ، فأما إذا قلبت هذه القضية فذاك إظهار للعداوة .

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاته الغنيمة ، فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى في البين قوله : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } والمراد التعجب كأنه تعالى يقول : انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبينه مودة ولا مخالطة أصلا ، فهذا هو المراد من الكلام ، وهو وإن كان كلاما واقعا في البين على سبيل الاعتراض إلا أنه في غاية الحسن .