مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{حَقِيقٌ عَلَىٰٓ أَن لَّآ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ قَدۡ جِئۡتُكُم بِبَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَرۡسِلۡ مَعِيَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (105)

ثم قال : { حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق } والمعنى أن الرسول لا يقول إلا الحق ، فصار نظم الكلام . كأنه قال : أنا رسول الله ، ورسول الله لا يقول إلا الحق ، ينتج أني لا أقول إلا الحق ، ولما كانت المقدمة الأولى خفية ، وكانت المقدمة الثانية جلية ظاهرة ، ذكر ما يدل على صحة المقدمة الأولى ، وهو قوله : { قد جئتكم ببينة من ربكم } وهي المعجزة الظاهرة القاهرة . ولما قرر رسالة نفسه فرع عليه تبليغ الحكم ، وهو قوله : { فأرسل معي بني إسرائيل } ولما سمع فرعون هذا الكلام قال : { إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من } واعلم أن دليل موسى عليه السلام كان مبنيا على مقدمات : إحداها : أن لهذا العالم إلها قادرا عالما حكيما . والثانية : أنه أرسله إليهم بدليل أنه أظهر المعجز على وفق دعواه ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون رسولا حقا . والثالثة : أنه متى كان الأمر كذلك كان كل ما يبلغه من الله إليهم ، فهو حق وصدق . ثم إن فرعون ما نازعه في شيء من هذه المقدمات إلا في طلب المعجزة ، وهذا يوهم أنه كان مساعدا على صحة سائر المقدمات ، وقد ذكرنا في سورة طه أن العلماء اختلفوا في أن فرعون هل كان عارفا بربه أم لا ؟ ولمجيب أن يجيب ، فيقول : إن ظهور المعجزة يدل أولا على وجود الإله القادر المختار ، وثانيا : على أن الإله جعله قائما مقام تصديق ذلك الرسول ، فلعل فرعون كان جاهلا بوجود الإله القادر المختار ، وطلب منه إظهار تلك المبينة حتى أنه إن أظهرها وأتى بها كان ذلك دليلا على وجود الإله أولا ، وعلى صحة نبوته ثانيا ، وعلى هذا التقدير : لا يلزم من اقتصار فرعون على طلب البينة ، كونه مقرا بوجود الإله الفاعل المختار . المسألة الثالثة : قرأ نافع { حقيق علي } مشدد الياء والباقون بسكون الياء والتخفيف . أما قراءة نافع { فحقيق } يجوز أن يكون بمعنى فاعل . قال الليث : حق الشيء معناه وجب ، ويحق عليك أن تفعل كذا ، وحقيق علي أن أفعله ، بمعنى فاعل . والمعنى : واجب علي ترك القول على الله إلا بالحق ، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول ، وضع فعيل في موضع مفعول . تقول العرب : حق علي أن أفعل كذا وإني لمحقوق على أن أفعل خيرا ، أي حق علي ذلك بمعنى استحق .

إذا عرفت هذا فنقول : حجة نافع في تشديد الياء أن حق يتعدى بعلي . قال تعالى : { فحق علينا قول ربنا } وقال : { فحق عليها القول } فحقيق يجوز أن يكون موصولا بحرف على من هذا الوجه ، وأيضا فإن قوله : { حقيق } بمعنى واجب ، فكما أن وجب يتعدى بعلى ، كذلك حقيق إن أريد به وجب ، يتعدى بعلى . وأما قراءة العامة { حقيق علي } بسكون الياء . ففيه وجوه : الأول : أن العرب تجعل الباء في موضع «علي » تقول : رميت على القوس وبالقوس ، وجئت على حال حسنة ، وبحال حسنة . قال الأخفش : وهذا كما قال : { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } فكما وقعت الباء في قوله : { بكل صراط } موضع «علي » كذلك وقعت كلمة «على » موقع الباء في قوله : { حقيق علي أن لا أقول } يؤكد هذا الوجه قراءة عبد الله { حقيق بأن لا أقول } وعلى هذه القراءة فالتقدير : أنا حقيق بأن لا أقول ، وعلى قراءة نافع يرتفع بالابتداء ، وخبره { أن لا أقول } الثاني : أن الحق هو الثابت الدائم ، والحقيق مبالغة فيه ، وكان المعنى : أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق . الثالث : الحقيق ههنا بمعنى المحقوق ، وهو من قولك : حققت الرجل إذا ما تحققته وعرفته على يقين ، ولفظة { علي } ههنا هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية ، كقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وتقول : جاءت فلان على هيئته وعادته ، وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات ، فمعنى الآية : أني لم أعرف ولم أتحقق إلا على قول الحق . والله أعلم .

أما قوله : { فأرسل معي بني إسرائيل } أي أطلق عنهم وخلهم ، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة ، مثل ضرب اللبن ونقل التراب ، فعند هذا الكلام قال فرعون : { قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين }