مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ أَلۡقُواْۖ فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ سَحَرُوٓاْ أَعۡيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَآءُو بِسِحۡرٍ عَظِيمٖ} (116)

ثم قال تعالى : { فلما ألقوا سحروا أعين الناس } واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه . قال القاضي : لو كان السحر حقا ، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم ؟ فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه . قال الواحدي : بل المراد سحروا أعين الناس ، أي قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات ، وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق ، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي ، فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا ، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها .

وأما قوله : { واسترهبوهم } فالمعنى : أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي . قال المبرد : { استرهبوهم } أرهبوهم ، والسين زائدة . قال الزجاج : استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس ، وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك : أيها الناس احذروا ، فهذا هو الاسترهاب . وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى ، فأوحى الله عز وجل إليه { أن ألق عصاك } قال المحققون : إن هذا غير جائز ، لأنه عليه السلام لما كان نبيا من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه ، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل ، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف .

فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : { فأوجس في نفسه خيفة موسى } .

قلنا : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب ، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم .

ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم : { وجاؤا بسحر عظيم } روي أن السحرة قالوا قد علمنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء ، فإنه لا طاقة لنا به . وروي أنهم كانوا ثمانين ألفا . وقيل : سبعين ألفا . وقيل : بضعة وثلاثين ألفا . واختلفت الروايات ، فمن مقل ومن مكثر ، وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد .