روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ} (20)

{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ومزيد النعمة ، واقتصر بعضهم على الهيبة ، والسدي على الجنود ، وروى عنه ابن جرير . والحاكم أنه كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف .

وحكي أنه كان حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه ، وهذا في غاية البعد عادة مع عدم احتياج مثله عليه السلام إليه ، وكذا القول الأول كما لا يخفى على منصف ، وأخرج عبد بن حميد . وابن جرير . وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ادعى رجل من بني إسرائيل عند داود عليه السلام رجلاً ببقرة فجحده فسئل البينة فلم تكن بينة فقال لهما عليه السلام : قوماً حتى أنظر في أمركما فقاما من عنده فأتى داود في منامه فقيل له : اقتل الرجل المدعى عليه فقال : إن هذه رؤيا ولست أعجل فأتى الليلة الثانية فقيل له : اقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة فقيل له : اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله تعالى فأرسل عليه السلام إلى الرجل فقال : إن الله تعالى أمرني أن أقتلك فقال : تقتلني بغير بينة ولا ثبت قال نعم : والله لأنفذن أمر الله عز وجل فيك فقال له الرجل لا تعجل علي حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكنني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت فأمر به داود عليه السلام فقتل فعظمت بذلك هيبته في بني إسرائيل وشد به ملكه .

وقرأ ابن أبي عبلة بشد الدال { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } النبوة وكمال العلم وإتقان العمل ، وقيل الزبور وعلم الشرائع ، وقيل كل كلام وافق الحكمة فهو حكمة { وَفَصْلَ الخطاب } أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل فالفصل بمعناه المصدري والخطاب الخصام لاشتماله عليه أو لأنه أحد أنواعه خص به لأنه المحتاج للفصل أو الكلام الذي يفصل بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والصواب والخطأ وهو كلامه عليه السلام في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات ، فالخطاب الكلام المخاطب به والفصل مصدر بمعنى اسم الفاعل أو الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والحذف والتكرار ونحوها فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به أيضاً والفصل مصدر إما بمعنى اسم الفاعل أي الفاصل المميز للمقصود عن غيره أو بمعنى اسم المفعول أي المقصود أي الذي فصل من بين أفراد الكلام بتلخيصه مراعاة ما سمعت فيه أو الذي فصل بعضه عن بعض ولم يجعل ملبساً مختلطاً .

وجوز أن يراد بفصل الخطاب الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام نبينا صلى الله عليه وسلم : «لا نزر ولا هذر »

فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به كما سلف والفصل إما بمعنى الفاصل لأن القصد أي المتوسط فاصل بين الطرفين وهما هنا المختصر المخل والمطنب الممل أو لأن الفصل والتمييز بين المقصود وغيره أظهر تحققاً في الكلام القصد لما في أحد الطرفين من الإخلال وفي الطرف الآخر من الاملال المفضي إلى إهمال بعض المقصود وإما بمعنى المفصول ون الكلام المذكور مفصول مميز عند السامع على المخل والممل بسلامته عن الاخلال والإملال ، والإضافة على الوجه الأول من إضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما عداه من إضافة الصفة لموصوفها ، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه . والشعبي وحكاه الطبرسي عن الأكثرين من أن فصل الخطاب هو قوله : البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه فقيل هو داخل في فصل الخطاب على الوجه الثاني فإن فيه الفصل بين المدعى عليه وهو من الفصل بين الحق والباطل ، وجاء في بعض الروايات هو إيجاب البينة على المدعى عليه فلعله أريد أن فصل الخطاب على الوجه الأول أعني فصل الخصام كان بذاك وجعله نفسه على سبيل المبالغة ، وما روي عن ابن عباس . ومجاهد . والسدى من أنه القضاء بين الناس بالحق والإصابة والفهم فهو ليس شيئاً وراء ما ذكر أولاً ، وأخرج ابن جرير عن الشعبي وابن أبي حاتم . والديلمي عن أبي موسى الأشعري أن فصل الخطاب الذي أوتيه عليه السلام هو أما بعد ، وذكر أبو موسى أنه عليه السلام أول من قال ذلك فقيل : هو داخل في فصل الخطاب وليس فصل الخطاب منحصراً فيه لأنه يفصل المقصود عما سيق مقدمة له من الحمد والصلاة أو من ذكر الله عز وجل مطلقاً ، وظاهره اعتبار فصل الخطاب بمعنى الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود إلى آخر ما مر ، ويوهم صنيع بعضهم دخوله فيه باعتبارالمعنى الثاني لفصل الخطاب ولا يتسنى ذلك ، وحمل الخبر على الانحصار مما لا ينبغي إذ ليس في إيتاء هذا اللفظ كثير امتنان ، ثم الظاهر أن المراد من أما بعد ما يؤدي مؤداه من الألفاظ لا نفس هذا اللفظ لأنه لفظ عربي وداود لم يكن من العرب ولا نبيهم بل ولا بينهم فالظاهر أنه لم يكن يتكلم بالعربية ، والذي يترجح عندي أن المراد بفصل الخطاب فصل الخصام وهو يتوقف على مزيد علم وفهم وتفهيم وغير ذلك فايتاؤه يتضمن إيتاء جميع ما يتوقف هو عليه وفيه من الامتنان ما فيه ، ويلائمه أتم ملاءمة قوله تعالى : { وَهَلْ ءاتِيكَ نَبَؤُا الخصم } .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ} (20)

قوله تعالى : { وشددنا ملكه } أي : قويناه بالحرس والجنود ، قال ابن عباس : كان أشد ملوك الأرض سلطاناً ، كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد ، أنبأنا محمد بن خالد بن الحسن ، حدثنا داود بن سليمان ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا محمد بن الفضل ، أنبأنا داود بن أبي الفرات ، عن علي بن أحمد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود عليه السلام أن هذا غصبني بقراً ، فسأله داود فجحد ، فقال للآخر : البينة ؟ فلم يكن له بينة ، فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما ، فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأوحى الله إليه مرة أخرى فلم يفعل ، فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة ، فأرسل داود إليه فقال : إن الله أوحى إلي أن أقتلك ، فقال : تقتلني بغير بينة ؟ فقال داود : نعم والله لأنفذن أمر الله فيك ، فلما عرف الرجل أنه قاتله ، قال : لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته ، فلذلك أخذت ، فأمر به داود فقتل ، فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود ، واشتد به ملكه فذلك قوله عز وجل : { وشددنا ملكه } . { وآتيناه الحكمة } يعني : النبوة والإصابة في الأمور ، { وفصل الخطاب } قال ابن عباس : بيان الكلام . وقال ابن مسعود ، والحسن ، والكلبي ، ومقاتل : علم الحكم والتبصر في القضاء . وقال علي بن أبي طالب : هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به . ويروى ذلك عن أبي بن كعب قال : فصل الخطاب ، الشهود والأيمان . وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح . وروي عن الشعبي : أن فصل الخطاب : هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه : ( ( أما بعد ) ) إذا أراد الشروع في كلام آخر ، وأول من قاله داود عليه السلام .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ} (20)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَشَدَدْنا مُلْكَهُ": اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدّد ملكه؛ فقال بعضهم: شدّد ذلك بالجنود والرجال...

وقال آخرون: كان الذي شدد به ملكه، أن أُعطِيَ هيبة من الناس له لقضية كان قضاها...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر أنه شَدّد ملك داود، ولم يحضر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له، ولا على هيبة الناس له دون الجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا، وجائز أن يكون كان بجميعها، ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله، إذ لم يحصُرْ ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له.

وقوله: "وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ "اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: عُني بها النبوّة...

وقال آخرون: عُني بها أنه علم السنن...

وقد بيّنا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله: "وفَصْلَ الخِطابِ "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛

فقال بعضهم: عني به أنه علم القضاء والفهم به...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الخطاب، بتكليف المدّعي البينة، واليمين على المدّعَى عليه...

وقال آخرون: بل هو قولُ: أما بعد...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب، والفصل: هو القطع، والخطاب هو المخاطبة، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم، ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا، فإقامة البينة على دعواه وإن كان مدعى عليه فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى الفصل بينهما بأما بعد. فإذ كان ذلك كله محتملاً ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الآية دلالة على أيّ ذلك المرادُ، ولا ورد به خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت، فالصواب أن يعم الخبر، كما عمه الله، فيقال: أُوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قال عامة أهل التأويل في قوله: {وشددنا ملكه}: لأنه كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفا من بني إسرائيل. لكن ليس في ما ذكروا كثير شد الملك وتقويته، إنما هو وصف ضعيف إلا أن يعنوا بما ذكروا كثرة أعوانه وأنصاره وفضل أتباعه وحواشيه، فعند ذلك يحتمل ما ذكروا من الحرس والحفظ.

وجائز أن يكون غير هذا أشبه له وأولى بما ذكر ملكه، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: شد ملكه مما ذكر من إلانة الحديد حتى كان يتخذ منه لباسا من الدروع وغيرها من أسباب الحرب والتأهب لها، وما يصلح للقتال ما لم يعط مثله لأحد سواه، فينقطع بذلك طمع الطامعين لهم في ذلك والراغبين في ملكه، ويأمن هو بذلك ذهابه، فهو شد ملكه.

والثاني: شد ملكه بما ذكر من تسخير الجبال له والطير والتسبيح معه وما ذكر من طاعة هذه الأشياء له والخضوع لأمره، فمن بلغ ملكه هذا المبلغ الذي وصف من طاعة من ذكره والتسخير له وعبادته لله تعالى، وطاعته لربه في نفسه حين قال عز وجل: {واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب} لم يقصد أحد من ملوك الأرض قصده، ولا طمع في زوال ملكه إليه بحال. فهذا أشبه أن يجعل تأويل شد ملكه الذي ذكر، مما قاله أهل التأويل.

{وآتيناه الحكمة} قال بعض أهل التأويل: أي النبوة {وفصل الخطاب} أي البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. لكن ليس في ما ذكروا من جعل البينة على المدعي وجعل اليمين على المنكر كثير منقبة وخصوصية إذ قد أعطينا نحن مثله، وقد ذكر على الخصوصية له، ثم جائز أن يكون ما ذكر من الحكمة التي أتاها له إحكام أمره في ما بينه وبين ربه في العبادة والطاعة له في كل وقت على ما وصفه حين قال: {ذا الأيد إنه أواب} أي ذا القوة والجهد في العبادة لله والطاعة له فيهم وإنزال كل منهم منزلة وتأليف قلوب بعضهم من بعض وجمعهم على دين واحد ومذهب واحد حتى لم يقع تنازع ولا خلاف. وعلى ذلك يخرج قوله عز وجل {وفصل الخطاب} أي قطع الخصومات في ما بينهم على التأليف والتلطيف وإيصال كل إلى حقه من غير أن يقع بينهم خشونة أو ضغن...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ}:... وقال أبو العالية: العلم الذي لا تردّه العقول...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

شددنا مُلْكَه بنصرنا له ودَفْعِنا البلاَءَ عنه، ويقال شدنا مُلْكَه بالعدل في القضية، وحُسْنِ السيرة في الرعية. ويقال شددنا ملكه بقبض أيدي الظَّلَمَة. ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين. ويقال شددنا مُلْكَه بأن رأى النصرةَ مِنَّا، وَتَبرَّأَ من حَوْلِه وقُوَّتِه. ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلُّونه على ما فيه صلاح مُلْكه. ويقال بِتَيَقُّظِه وحُسْنِ سياسته. ويقال بقبوله الحق من كلِّ أحد. ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات...

{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}: أعطيناه الرُّشْدَ والصوابَ، والفَهْمَ والإصابة. ويقال العلم بنفْسِه وكيفية سياسة أمته. ويقال الثبات في الأمور والحكمة، وإِحكام الرأي والتدبُّر. ويقال صحبة الأبرار، ومجانبة الأشرار...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{وشددنا ملكه} عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة...

{الحكمة} هي عقائد البرهان.

واختلف الناس في {فصل الخطاب}... والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن: {إنه لقول فصل} [الطارق: 13]،ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله: «وأعطيت جوامع الكلم».

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

الشَّدُّ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ، وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ شَدَدْنَاهُ بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ، وَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وآتيناه الحكمة} اعلم أنه تعالى قال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية، والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل، أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضى الطاقة البشرية، وأما العمل فهو أن يكون الإنسان آتيا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة، فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخ والنقض فكانت في غاية الإحكام،

وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية، ولا تقبل النقض والنسخ، فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة...

{وفصل الخطاب}...لما بين الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله: {وآتيناه الحكمة} أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد، وأقول حقا إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرمانا عظيما.

وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضا، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال، بحيث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً، فكان كأنه قيل: كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه، قال: {وشددنا} أي بما لنا من العظمة {ملكه} بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك...، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً.

ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال: {وآتيناه} أي بعظمتنا {الحكمة} أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها، فالحكمة العمل بالعلم.

ولما كان تمامه بقطع النزاع قال: {وفصل الخطاب} أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند، وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترئ أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات، وميز بين المشكلات الغامضات، وإذا تكلم وقف على المفاصل، فيبين من سرده للحديث معانيه، ويضع الشيء في أحكم مبانيه...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الشد: الإِمساك وتمكّن اليد مما تمسكه، فيكون لقصد النفع كما هنا، ويكون لقصد الضرّ كقوله: {واشدد على قلوبهم في سورة} [يونس: 88]، فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه، وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت...

والحكمة في الأعم: العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي.