تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ} (20)

قوله تعالى : { وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة } قال عامة أهل التأويل في قوله : { وشددنا ملكه } : لأنه كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفا من بني إسرائيل . لكن ليس في ما ذكروا كثير شد الملك وتقويته ، إنما هو وصف ضعيف إلا أن يعنوا بما ذكروا كثرة أعوانه وأنصاره وفضل أتباعه وحواشيه . فعند ذلك يحتمل ما ذكروا من الحرس والحفظ . فليس فيه كثير شد ولا فضل منقبة .

وجائز أن يكون غير هذا أشبه له وأولى بما ذكر ملكه . وهو يخرج على وجهين :

أحدهما : شد ملكه مما ذكر من إلانة الحديد حتى كان يتخذ منه لباسا من الدروع وغيرها من أسباب الحرب والتأهب لها ، وما يصلح للقتال ما لم يعط مثله لأحد سواه ، فينقطع بذلك طمع الطامعين لهم في ذلك والراغبين في ملكه ، ويأمن هو بذلك ذهابه . فهو شد ملكه ، والله أعلم .

والثاني : شد ملكه بما ذكر من تسخير الجبال له والطير والتسبيح معه وما ذكر من طاعة هذه الأشياء له والخضوع لأمره . فمن بلغ ملكه هذا المبلغ الذي وصف من طاعة من ذكره والتسخير له وعبادته لله تعالى ، وطاعته لربه في نفسه حين قال عز وجل : { واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب } لم يقصد أحد من ملوك الأرض قصده ، ولا طمع في زوال ملكه إليه بحال . فهذا أشبه أن يجعل تأويل شد ملكه الذي ذكر ، والله أعلم ، مما قاله أهل التأويل .

وقوله تعالى : { وآتيناه الحكمة } قال بعض أهل التأويل : وقوله عز وجل { وآتيناه الحكمة } أي النبوة { وفصل الخطاب } أي البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه . لكن ليس في ما ذكروا من جعل البينة على المدعي وجعل اليمين على المنكر كثير منقبة وخصوصية إذ قد أعطينا نحن مثله ، وقد ذكر على الخصوصية له .

ثم جائز أن يكون ما ذكر من الحكمة التي أتاها له إحكام أمره في ما بينه وبين ربه في العبادة والطاعة له في كل وقت على ما وصفه حين قال : { ذا الأيد إنه أواب } أي ذا القوة والجهد في العبادة لله والطاعة له فيهم وإنزال كل منهم منزلة وتأليف قلوب بعضهم من بعض وجمعهم على دين واحد ومذهب واحد حتى لم يقع تنازع ولا خلاف ، والله أعلم .

وعلى ذلك يخرج قوله عز وجل { وفصل الخطاب } أي قطع الخصومات في ما بينهم على التأليف والتلطيف وإيصال كل إلى حقه من غير أن يقع بينهم خشونة أو ضغن ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وفصل الخطاب } قال بعضهم : ما ذكرنا من القصة بين الخصوم بالبينة على المدعي واليمين على المنكر وليس في ذلك كثير منقبة ولا خصوصية . وقال بعضهم هو : أما بعد ، وهذا أيضا ليس بشيء .

والأصل فيه ما ذكرنا ، والله أعلم ، والخطاب : هي الخصومة .

قال أبو معاذ : الخطاب كالجدال والخصام : يقول : خاطبته خطابا ومخاطبة واحد ، كما يقول : جادلته جدالا ومجادلة . فكل فاعله له مصدران فعال ومفاعلة .

وقال أبو عوسجة : الفصل القضاء ، والخطاب الخصومة . يقول : خاطبت الرجل ، أي خاصمته . والإشراق ، هو طلوع الشمس ووقوعها في كل ناحية بنورها كقوله عز وجل { وأشرقت الأرض بنور ربها } [ الزمر : 69 ] والله أعلم .