روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ} (4)

وقوله تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } استئناف أيضاً لبيان التخصيص بالليلة المباركة فكأنه قيل : أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزاله في تلك الليلة المباركة لأنه من الأمور الدالة على الحكم البالغة وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ففي الكلام لف ونشر ، واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين مما لا داعي إليه ، وقيل : إن جملة { فِيهَا يُفْرَقُ } الخ صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض لا يضر الفصل به بل لا يعد الفصل به فصلاً ، وقيل إن قوله تعالى : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] هو جواب القسم وما بينهما اعتراض وإليه ذهب ابن عطية زاعماً أنه لا يجوز جعل { إِنَّا أنزلناه } [ الدخان : 3 ] جواباً له لما فيه من القسم بالشيء على نفسه .

واعترض بأن قوله تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } يكون حينئذ من تتمة الاعتراض فلا يحسن تأخره عن المقسم عليه ولا يدفعه أن هذه الجملة مستأنفة لا صفة أخرى لأنه استئناف بياني متعلق بما قبل كما سمعت آنفاً فلا يليق الفصل أيضاً كما لا يخفى على من له ذوق سليم ، وما ذكر من حديث القسم بالشيء على نفسه فقد أشرنا إلى جوابه ، وقيل أن قوله سبحانه : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } جواب آخر للقسم وفيه تعدد المقسم عليه من غير عطف ولم نر من تعرض له ، ومعنى يفرق ويفصل ويلخص ، والحكيم بمعنى المحكم لأنه لا يبدل ولا يغير بعد إبرازه للملائكة عليهم السلام بخلافه قبله وهو في اللوح فإن الله تعالى يمحو منه ما يشاء ويثبت .

وجوز أن يكون بمعنى المحكوم به ونسبته إلى الأمر عليها حقيقة ، ويجوز أن يكون المعنى كل أمر ملتبس بالحكمة والأصل حكيم صاحبه فتجوز في النسبة ، وقيل : إن حكيم للنسبة كتامر ولابن وقد أبهم سبحانه هذا الأمر .

وأخرج محمد بن نصر . وابن المنذر . وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان .

وأخرج عبد بن حميد . وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال : كنت عند الحسن فقال له رجل : يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي ؟ قال : إي والله إنها لفي كل رمضان وإنها لليلة يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها ، وروي هذا التعميم عن غير واحد من السلف .

وأخرج البيهقي عن أبي الجوزاء فيها يفرق كل أمر حكيم هي ليلة القدر يجاء بالديوان الأعظم السنة إلى السنة فيغفر الله تعالى شأنه لمن يشاء ألا ترى أنه عز وجل قال : { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } [ الدخان : 6 ] وفيه بحث ، وإلى مثل ذلك التعميم ذهب بعض من قال : إن الليلة المباركة هي ليلة البراءة ، أخرج ابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة أنه قال في الآية : في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد ، وفي كثير من الأخبار الاقتصار على قطع الآجال ، أخرج ابن جرير . والبيهقي في «شعب الإيمان » عن الزهري عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخفش قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى " ، وأخرج الدينوري في المجالسة عن راشد بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " في ليلة النصف من شعبان يوحي الله تعالى إلى ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة " ونحوه كثير ، وقيل : يبدأن في استنساخ كل أمر حكيم من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب إلى جبرائيل عليه السلام وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال إلى إسماعيل عليه السلام صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت .

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان وتسلم إلى أربابها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان . واعترض بما ذكر على الاستدلال بالظواهر على أن الليلة المذكورة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان ومن تدبر علم أنه لا يخدش الظواهر ، نعم حكي عن عكرمة أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر ويلزمه تأويل ما يأبى ظاهره ذلك فتدبر ، وسيأتي إن شاء الله عز وجل الكلام في هذا المقام مستوفى على أتم وجه في تفسير سورة القدر وهو سبحانه الموفق .

وقرأ الحسن . والأعرج . والأعمش { يُفْرَقُ } بفتح الياء وضم الراء { كُلٌّ } بالنصب أي يفرق الله تعالى ، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري عنه { نُفَرّقُ } بالنون { كُلٌّ } بالنصب وفيما ذكر أبو علي الأهوازي عنه بفتح الياء وكسر الراء ونصب { كُلٌّ } ورفع { حَكِيمٌ } على أنه الفاعل بيفرق ، وقرأ الحسن . وزائدة عن الأعمش { يُفْرَقُ } بالتشديد وصيغة المفعول وهو للتكثير وفيه رد على قول بعض اللغويين كالحريري أن الفرق مختص بالمعاني والتفريق بالأجسام .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ} (4)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"فِيها يُفْرَق كُلّ أمْرٍ حَكِيم" اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يُفرق فيها كلّ أمر حكيم، نحو اختلافهم في الليلة المباركة، وذلك أن الهاء التي في قوله: "فِيها "عائدة على الليلة المباركة، فقال بعضهم: هي ليلة القدر، يُقْضَى فيها أمر السنة كلها؛ من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة... وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان...

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر لما قد تقدّم من بياننا عن أن المعنِيّ بقوله: "إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ" ليلة القدر، والهاء في قوله: "فِيها" من ذكر الليلة المباركة.

وعنى بقوله: "فِيها يُفْرَقُ كُلّ أمْرٍ حَكِيمٍ" في هذه الليلة المباركة يُقْضَى ويُفْصَل كلّ أمر أحكمه الله تعالى في تلك السنة إلى مثلها من السنة الأخرى، ووضع "حكيم" موضع محكم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{كل أمر حكيم} يحتمل أي كل أمر فيه حكمة...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وفي يفرق أربعة أوجه:

الثاني: يكتب، قاله ابن عباس.

الثالث: ينزل، قاله ابن زيد.

الرابع: يخرج، قاله ابن سنان.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{كل أمر حكيم} فالحكيم معناه ذو الحكمة؛ وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى، فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما وصف ليلة إنزال هذا القرآن بالبركة، وأعلم أن من أعظم بركتها النذارة، وكانت النذارة مع أنها فرقت من البشارة أمراً عظيماً موجباً لفرقان ما بين المحاسن والمساوئ من الأعمال قائدة إلى كل خير، بدليل أن أتباع ذوي البركة من العلماء، وإذا تعارض عندهم أمر العالم والظالم، قدموا أمر الظالم لما يخافون من نذارته، وأهملوا أمر العالم وإن عظم الرجاء لبشارته، قال معللاً لبركتها بعد تعليل الإنزال فيها، ومعمماً لها يحصل فيها من بركات التفضيل: {فيها يفرق} أي ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة.

{كل أمر حكيم} أي محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحى به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياً في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر، وفصل فيها كل شأن، وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق، ووضعت الحدود، وأقيمت المعالم لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين؛ فلم يبق هناك أصل من الأصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح ولا مرسوم في دنيا الناس، كما هو واضح ومرسوم في الناموس الكلي القديم...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{فيها يُفْرَقُ كلّ أمر حكيم}...

والفرق: الفصل والقضاء، أي فيها يُفصَل كل ما يراد قضاؤه في النّاس ولهذا يُسمى القرآن فرقاناً، وتقدم قوله تعالى: {فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين} في سورة المائدة (25)، أي جَعل الله الليلة التي أنزل فيها القرآن وقتاً لإنفاذ وقوع أمور هامة مِثل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لتلك المقضيات وتشريفاً لتلك الليلة.

وكلمة {كلّ} يجوز أن تكون مستعملة في حقيقة معناها من الشمول، وقد علم الله ما هي الأمور الحكيمة فجمعها للقضاء بها في تلك الليلة وأعظمها ابتداء نزول الكتاب الذي فيه صلاح الناس كافّة ويجوز أن تكون {كل} مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال في كلام الله تعالى وكلام العرب وقد تقدم في قوله تعالى في سورة النمل (23) {وأوتيت من كل شيءٍ} أي فيها تُفْرَق أمور عظيمة.

والظاهر أن هذا مستمر في كل ليلة توافق عدّ تلك الليلة من كل عام كما يؤذن به المضارع في قوله {يُفْرق}، ويحتمل أن يكون استعمال المضارع في {يفرق} لاستحضار تلك الحالة العظيمة كقوله تعالى: {فتثير سحاباً} [الروم: 48].

والأمر الحكيم: المشتمل على حكمة من حكمة الله تعالى أو الأمر الذي أحكمه الله تعالى وأتقنه بما ينطوي عليه من النُّظُم المدبرة الدالة على سعة العلم وعمومه. وبعض تلك الأمور الحكيمة يُنفِذُ الأمرَ به إلى الملائكة الموكلين بأنواع الشؤون، وبعضها يُنفذ الأمر به على لسان الرّسول مدة حياته الدنيوية، وبَعْضاً يلهمُ إليه من ألهمه الله أفعالاً حكيمة، والله هو العالم بتفاصيل ذلك.