فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ} (4)

ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه هنا بقوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي يفصل ويبين من قولهم فرقت الشيء أفرقه فرقا ، والأمر الحكيم المحكم المبرم الذي لا يحصل فيه تغيير ولا نقض ، وذلك أن الله سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت ، وبسط وقبض ، وخير وشر ، ورزق وأجل ، ونصر وهزيمة ، وخصب وقحط ، وغير ذلك من أقسام الحوادث وجزئياتها في أوقاتها وأماكنها ، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء ، فيزدادون بذلك إيمانا ، كذا قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم .

وقيل : معنى حكيم أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من إسناد المجازي ، لأن الحكيم صاحب الأمر على الحقيقة ، ووصف به الأمر مجازا ، وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض أو مستأنفة لتقرير ما قبلها ، قرأ الجمهور يفرق بضم الياء وفتح الراء مخففا ، وقرئ بفتح الياء وضم الراء ، ونصب كل أمر ورفع حكيم على أنه الفاعل .

والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان لأن الله سبحانه أجملها هنا وبينها في سورة البقرة بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ } وبقوله في سورة القدر { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف ، ولا ما يقتضي الاشتباه .

قال ابن عباس في الآية ( يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت وحياة ومطر ، حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان ) وقال ابن عمر : ( أمر السنة إلى السنة إلا الشقاوة والسعادة ، فإنه في كتاب الله لا يبدل ولا يغير " أخرجه ابن أبي حاتم ، وأخرج عبد بن حميد وغيره عنه أنه قال : ( إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى ، ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها ) ، وأخرج ابن زنجويه والديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له قد خرج اسمه في الموتى ) وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير عن عثمان بن محمد ، وهذا مرسل لا تقوم به الحجة ، ولا يعارض بمثله صرائح القرآن ، وما روي في هذا فهو مرسل أو غير صحيح ، وقد أورد ذلك صاحب الدر المنثور ، وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان ، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة{[1478]} .


[1478]:زاد المسير337.