روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ} (25)

{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك } أي ما استغفرنا منه .

أخرج أحمد . وعبد بن حميد عن يونس بن حبان أن داود عليه السلام بكى أربعين ليلة حتى نبت العشب حوله من دموعه ثم قال : يا رب قرح الجبين ورقأ الدمع وخطيئتي على كما هي فنودي يا داود أجائع فتطعم ؟ أم طمآن فتسقي ؟ أم مظلوم فينتصر لك ؟ فنحب نحبة هاج ما هنالك من الخضرة فغفر له عند ذلك ، وفي رواية عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن مجاهد أنه خر ساجداً أربعين ليلة حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه ثم قال الخ ، وروي أنه لم يشرب ماء إلا وثلثاه من دمعه وجهد نفسه راغباً إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما غفر لمحاربه فهزمه .

وأخرج أحمد عن ثابت أنه عليه السلام اتخذ سبع حشايا وحشاهن من الرماد حتى أنفذها دموعاً ولم يشرب شراباً إلا مزجه بدمع عينيه ، وأخرج عن وهب أنه اعتزل النساء وبكى حتى رعش وخددت الدموع في وجهه ، ولم ينقطع خوفه عليه السلام وقلقه بعد المغفرة ، فقد أخرج أحمد . والحكيم الترمذي . وابن جرير عن عطاء الخراساني أن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها وكان إذا رآها اضطربت يداه .

وأخرج أحمد . وغيره عن ثابت عن صفوان . وعبد بن حميد من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى } قرية بعد المغفرة .

{ وَحُسْنُ مَئَابٍ } وحسن مرجع في الجنة ، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية : يدنو من ربه سبحانه حتى سضع يده عليه ، وهو إن صح من المتشابه . وأخرج أحمد في الزهد . والحكيم الترمذي . وابن المنذر . وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال فيها : يقام داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول الرب عز وجل : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الخرمي الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول : يا رب كيف وقد سلبته ؟ فيقول : إني راده عليك اليوم فيندفع بصوت يستغرق نعيم أهل الجنة .

هذا واختلف في أصل قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل إنه عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه وفي بعض الآثار أنه وزيره فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزاً في شريعته معتاداً فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته ، وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام بعد الهجرة إذا كانت له زوجتان نزل عن إحداهما لمن اتخذه أخاً له من المهاجرين لكنه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به ، وقيل إنه أضمر في نفسه إن قتل أوريا تزوج بها وإليه مال ابن حجر في تحفته .

وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها هو فآثره عليه السلام أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن ، وفي بعض الآثار أنه فعل ذلك ولم يكن عالماً بخطبة أخيه فعوتب على ترك السؤال هل خطبها أحد أم لا ؟ وقيل إنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزوج بها فلما قتل أوريا خطب امرأته ظاناً أن أولياءه رغبوا عنها فلما سمعوا منعتهم هيبته وجلالته أن يخطبوها .

وقيل أنه كان في عبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وهو نظر مباح فمالت نفسه ميلاً طبيعياً إليها فشغل عن بعض نوافله فعوتب لذلك ، وقيل إنه لم يتثبت في الحكم وظلم المدعى عليه قبل سؤاله لما ناله من الفزع وكانت الخصومة بين المتخاصمين وكانا من الإنس على الحقيقة إما على ظاهر ما قص أو على جعل النعجة فيه كناية عن المرأة ، ونقل هذا عن أبي مسلم ، والمقبول من هذه الأقوال ما بعد من الإخلال بمنصب النبوة ، وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه عليه السلام .

ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه على ما في بعض الكتب : من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين ، وهذا اجتهاد منه كرم الله تعالى وجهه ، ووجه مضاعفة الحد على حد الأحرار أنهم عليهم السلام سادة السادة وهو وجه مستحسن إلا أن الزين العرافي ذكر أن الخبر نفسه لم يصح عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وقال أبو حيان : الذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظاناً أنهم يغتالونه إذ كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه عز وجل فلما اتضح له أنهم جاؤوا في حكومة وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى له أن يغتالوه فلم يقع ما كان ظنه فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يكن ليقع مظنونه وخر ساجداً ورجع إلى الله تعالى وأنه سبحانه غفر له ذلك الظن فإنه عز وجل قال : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك } ولم يتقدم سوى قوله تعالى : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه } [ ص : 42 ] ونعلم قطعاً أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة إنا لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون أنه وحي من الله تعالى فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده الله تعالى وما حكى القصاص مما فيه نقص لمنصب الرسالة طرحناه ، ونحن كما قال الشاعر :

ونؤثر حكم العقل في كل شبهة *** إذا آثر الأخبار جلاس قصاص

انتهى ؛ ويقرب من هذا من وجه ما قيل إن قوماً قصدوا أن يقتلوه عليه السلام فتسوروا المحراب فوجدوا عنده أقواماً فتصنعوا بما قص الله تعالى من التحاكم فعلم غرضهم فقصد أن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى وامتحان له هل يغضب لنفسه أم لا فاستغفر ربه مما عزم عليه من الانتقام منهم وتأديبهم لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به ، وقيل : الاستغفار كان لمن هجم عليه وقوله تعالى : { فَغَفَرْنَا لَهُ } على معنى فغفرنا لأجله ، وهذا تعسف وإن وقع في بعض كتب الكلام ، وعندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصف ، نعم لا يقبل منها ما فيه إخلال بمنصب النبوة ولا يقبل تأويلاً يندفع معه ذلك ولا بد من القول بأنه لم يكن منه عليه السلام إلا ترك ما هو الأولى بعلى شأنه والاستغفار منه وهو لا يخل بالعصمة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ} (25)

{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } الذي صدر منه ، وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات ، فقال : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } أي : منزلة عالية ، وقربة منا ، { وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : مرجع .

وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام ، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره ، فالتعرض له من باب التكلف ، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته ، وأنه ارتفع محله ، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ} (25)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فغفرنا له ذلك} يعني ذنبه، ثم أخبر بما له في الآخرة، فقال: {وإن له عندنا لزلفى} لقربة.

{وحسن مآب} وحسن مرجع.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"فَغَفَرْنا لَهُ ذلكَ": فعفونا عنه، وصفحنا له عن أن نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك.

"وإنّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفَى" يقول: وإن له عندنا لَلْقُرْبة منا يوم القيامة...

وقوله: "وَحُسْنِ مآبٍ": يقول: مَرْجع ومنقَلَب ينقلب إليه يوم القيامة...

عن قتادة: "وَحُسْن مآبٍ": أي حسن مصير.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل قوله عز وجل {عندنا لزلفى} في باقي عمره ما يزلفه لدينا، أو يقربه عندنا.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يقال لمَّا التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وَجَدَ المغفرةَ والتجاوز... وهكذَا مَنْ رجع في أوائل الشدائد إلى الله، فاللَّهُ يكفيه مما ينوبه، وكذلك مَنْ صَبَرَ إلى حين طالت عليه المحنة، ويقال إنَّ زَلّةً أَسَفُكَ عليها يوصلك إلى ربِّك أَجْدَى عليك من طاعةٍ إعجابُكَ بها يُقْصِيكَ عن ربِّك.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

«غفرنا»: معناه سترنا، وذلك إشارة إلى الذنب المتقدم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الحال قد يشكل في الإخبار عن المغفرة لو عبر بضمير الغائب لإيهام أن ربه غير المتكلم، وكان الغفران لا يحسن إلا مع القدرة، عاد إلى مظهر العظمة إثباتاً للكمال ونفياً للنقص: فقال: {فغفرنا} أي بسبب ذلك وفي أثره على عظمتنا وتمام قدرتنا غفراً يناسب مقداره ما لنا من العظمة.

{له ذلك} أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه...

ولما كان ذكر هذا ربما أوهم شيئاً في مقامه صلى الله عليه وسلم، سيق في أسلوب التأكيد قوله: {وإن له} أي مع الغفران، وعظم ذلك بمظهر العظمة؛ لأن ما ينسب إلى العظيم لا يكون إلا عظيماً فقال: {عندنا}.

وزاد في إظهار الاهتمام بذلك نفياً لذلك الذي ربما توهم، فأكد قوله: {لزلفى} أي قربة عظيمة ثابتة بعد المغفرة.

{وحسن مآب} مرجع في كل ما يؤمل من الخير.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

اسم الإِشارة في قوله: {فغفرنا له ذلك} إلى ما دلت عليه خصومة الخصمين من تمثيل ما فعله داود بصورة قضية الخصمين، وهذا من لطائف القرآن إذ طوى القصة التي تمثَّل له فيها الخصمان ثم أشار إلى المطوي باسم الإِشارة.

وأتبع الله الخبر عن الغفران له بما هو أرفع درجة، وهو أنه من المقرّبين عند الله المرضيّ عنهم وأنه لم يوقف به عند حد الغفران لا غير.

والزلفى: القربى، وهو مصدر أو اسم مصدر، وتأكيد الخبر لإِزالة توهم أن الله غضب عليه إذ فتنه تنزيلاً لمقام الاستغراب منزلة مقام الإِنكار.

والمئاب: مصدر ميمي بمعنى الأوْب وهو الرجوع، والمراد به: الرجوع إلى الآخرة. وسمي رجوعاً لأنه رجوع إلى الله، أي إلى حكمة البحْت ظاهراً وباطناً قال تعالى: {إليه أدعو وإليه مئاب} [الرعد: 36].