عطف على جملة { واتّبع الذين ظلموا ما أتفرفوا فيه } [ هود : 116 ] لما يؤذنه به مضمون الجملة المعطوف عليها من تعرّض المجرمين لحلول العقاب بهم بناء على وصفهم بالظلم والإجرام ، فعقب ذلك بأن نزول العذاب ممّن نزل به منهم لم يكن ظلماً من الله تعالى ولكنهم جرّوا لأنفسهم الهلاك بما أفسدوا في الأرض والله لا يحبّ الفساد .
وصيغة { وما كان ربك ليهلك } تدل على قوة انتفاء الفعل ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في [ آل عمران : 79 ] ، وقوله : { قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ } في آخر [ العقود : 116 ] فارجع إلى ذينك الموضعين .
والمراد { بالقرى } أهلها ، على طريقة المجاز المرسل كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
والباء في { بظلم } للملابسة ، وهي في محل الحال من { ربّك } أي لمّا يهلك النّاس إهلاكاً متلبساً بظلم .
وجملة { وأهلها مصلحون } حال من { القرى } أي لا يقع إهلاك الله ظالماً لقوم مصلحين .
والمصلحون مقابل المفسدين في قوله قبله : { ينهون عن الفساد في الأرض } وقوله { وكانوا مجرمين } [ هود : 116 ] ، فالله تعالى لا يُهلك قوماً ظالماً لهم ولكن يُهلك قوماً ظَالمين أنفُسَهُمْ . قال تعالى : { وما كنّا مُهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون } [ القصص : 59 ] .
والمراد : الإهلاك العاجل الحالّ بهم في غير وقت حلول أمثاله دون الإهلاك المكتوب على جميع الأمم وهو فناءُ أمة وقيام أخرى في مدد معلومة حسب سنن معلومة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما كان ربك ليهلك}، يعني: ليعذب في الدنيا، {القرى بظلم}، يعني: على غير ذنب، يعني: القرى التي ذكر الله تعالى في هذه السورة الذين عذبهم الله، وهم: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، ثم قال: {وأهلها مصلحون}، يعني: مؤمنون، يقول: لو كانوا مؤمنين ما عذبوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما كان ربك، يا محمد، ليهلك القرى التي أهلكها، التي قصّ عليك نبأها، ظلما وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم ظلما، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات. وقد قيل: معنى ذلك: لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله، وذلك قوله {بظلم}، يعني: بشرك، وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطون الحقّ بينهم وإن كانوا مشركين، وإنما يهلكهم إذا تظالموا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي ما كان ربك ليهلك القرى إهلاك استئصال وانتقام، وأهلها مصلحون. إنما نهلك القرى إذا كان أهلها مفسدين، أو عامة أهلها مفسدين. هذا يدل أن الحكم في الدار إنما يكون بغلبة أهلها، إن كان أكثر أهلها أهل الإسلام، فالحكم حكم الإسلام وإن كان عامة أهلها أهل الحرب والكفر، فالحكم حكمهم، ولا يسمى أهلها كلهم بالكفر والفساد إذا كان أكثر أهلها مصلحين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَانَ} بمعنى: صح واستقام. واللام لتأكيد النفي. و {بِظُلْمٍ} حال من الفاعل. والمعنى: واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالماً لها {وَأَهْلُهَا} قوم {مُصْلِحُونَ} تنزيهاً لذاته عن الظلم، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم. وقيل: الظلم: الشرك، ومعناه أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر.
اعلم أنه تعالى بين أنه ما أهلك أهل القرى إلا بظلم وفيه وجوه:
[منها]: أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر، بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم. ولهذا قال الفقهاء إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة. وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم، فمعنى الآية: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم} أي لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضا على الصلاح والسداد. وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية، قالوا: والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما لاح بما مضى أن العبرة في الإهلاك والإنجاء للأكثر، قرره وأكده وبينه بقوله: {وما كان ربك} ذكر سبحانه بالوصف المفهم للإحسان تثبيتاً له وتأميناً {ليهلك القرى} أي إهلاكاً عاماً {بظلم} أي أيّ ظلم كان، صغير أو كبير {وأهلها مصلحون*} أي في حال ظلم بأن يوقع إهلاكهم في حال إصلاحهم الذي هم عريقون فيه، فيكون الإهلاك في غير موقعه على ما يتعارف العباد مع العلم بأن له أن يفعل ذلك في نفس الأمر لأنه لا يسأل عما يفعل؛ والإهلاك: إيجاب ما يبطل الإحساس، والهلاك: ضياع الشيء وهو حصوله بحيث لا يدري أين هو؛ والإصلاح: إيجاب ما يستقيم به الأمر على ما يدعو إليه العقل...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمةِ أن يُهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويُعلَم من ذلك حالُ باقيها من القرى الظالمةِ...
{بِظُلْمٍ} أي ملتبساً به... والمرادُ تنزيهُ الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى وإلا فلا ظلمَ فيما فعله الله تعالى بعباده كائناً ما كان... وقيل: المرادُ بالظلم الشركُ والباء للسببية أي لا يُهلك القرى بسبب إشراك أهلِها وهم مُصلِحون يتعاطَوْن الحقَّ فيما بينهم ولا يضمُّون إلى شركهم فساداً آخرَ، وذلك لفرط رحمتِه ومسامحتِه في حقوقه تعالى... وأنت تدري أن مقامَ النهي عن المنكرات التي أقبحُها الإشراكُ بالله لا يلائمه، فإن الشركَ داخلٌ في الفساد في الأرض دخولاً أولياً... فالوجهُ حملُ الظلمِ على مطلق الفسادِ الشاملِ للشرك وغيرِه من أصناف المعاصي، وحملُ الإصلاحِ على إصلاحه والإقلاعِ عنه بكون بعضهم متصدّين للنهي عنه وبعضِهم متوجّهين إلى الاتعاظ غيرَ مُصرِّين على ما هم عليه من الشرك وغيرِه من أنواع الفساد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} أي وما كان من شأن ربك وسنته في الاجتماع البشري أن يهلك الأمم بظلم منه لها في حال كون أهلها مصلحين في الأرض، مجتنبين للفساد والظلم، وإنما أهلكهم ويهلكهم بظلمهم وإفسادهم فيها، كما ترى في الآيات العديدة من هذه السورة وغيرها.
وفي الآية وجه آخر وهو أنه ليس من سنته تعالى أن يهلك القرى بظلم يقع فيها مع تفسير الظلم بالشرك وأهلها مصلحون في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية، وأحكامهم المدنية والتأديبية، فلا يبخسون الحقوق كقوم شعيب، ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر كقوم لوط، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كقوم هود، ولا يذلون لمتكبر جبار يستعبد الضعفاء، كقوم فرعون؛ بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام، وهو الظلم المدمر للعمران، ويحتمل أن يراد أنه لا يهلكها بظلم قليل من أهلها لأنفسهم، إذا كان الجمهور الأكبر منهم مصلحين في جل أعمالهم ومعاملاتهم للناس. أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال: (وأهلها ينصف بعضهم بعضا). وروي موقوفا على جرير رضي الله عنه، فتنكير الظلم في هذا للتقليل والتحقير، وفيما قبله للتعظيم، وهو مأخوذ من قوله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] والآية تدل على أن إهلاك المصلحين ظلم فلذلك يتنزه الله عنه.
وذكر المفسرون في الوجه الثاني القول المشهور المعبر عن تجارب الناس، وهو أن الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظلم، والأوجه الثلاثة في الآية صحيحة ويجوز إرادتها كلها على القول بأن جميع ما يدل عليه الكلام مما شأن صاحبه أن يعلمه، ولا يكون متعارضا في نفسه يصح أن يكون مرادا له، وإن كان من المشترك، أو كان بعضه حقيقة وبعضه مجازا، ومن أركان بلاغة القرآن جمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل، وأن يكون بعضها واضحا في هذه المعاني وبعضها خفيا يراد به أن يذهب الذهن والفكر فيه كل مذهب، وهذا مما يتنافس فيه البلغاء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين، أي إذا كان للمصلحين من أهلها قدرة يصدون بها الظلم والفساد، إنما كان في هذه القرى قلة من المؤمنين لا نفوذ لهم ولا قوة، فأنجاهم الله. وكان فيها كثرة من المترفين وأتباعهم والخانعين لهم، فأهلك القرى بأهلها الظالمين: فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض! إلا قليلا ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.. وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال.. والاختلال! فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب.. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره.. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع...