التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَشَٰرِبُونَ شُرۡبَ ٱلۡهِيمِ} (55)

وقد زيد تفظيعاً بالتشبيه في قوله : { فشاربون شرب الهيم } ، كما سيأتي ، وإعادة فعل ( شاربون ) للتأكيد وتكرير استحضار تلك الصورة الفظيعة . ومعنى { شاربون عليه } يجوز أن يكون ( على ) فيه للاستعلاء ، أي شاربون فوقه الحميم ، ويجوز مع ذلك استفادة معنى ( مع ) من حرف ( على ) تعجيباً من فظاعة حالهم ، أي يشربون هذا الماء المحرق مع ما طعموه من شجر الزقوم الموصوفة في آية أخرى بأنها { يغلي في البطون كغَلي الحميم } [ الدخان : 45 ، 46 ] فيفيد أنهم يتجرعونه ولا يستطيعون امتناعاً .

و { مِن } الداخلة على { شجر } ابتدائية ، أي آكلون أكلاً يؤخذ من شجر الزقوم ، و { من } الثانية الداخلة على { زقوم } بيانية لأن الشجر هو المسمى بالزقوم .

وتأنيث ضمير الشجر في قوله : { فمالئون منها البطون } لأن ضمائر الجمع لغير العاقل تأتي مؤنثة غالباً .

وأما ضمير { عليه } فإنما جاء بصيغة المذكر لأنه عائد على الأكل المستفاد من قوله : { لآكلون } ، أي على ذلك الأكل بتأويل المصدر باسم المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق .

والهِيم : جمع أهيم ، وهو البعير الذي أصابه الهُيام بضم الهاء ، وهو داء يصيب الإِبل يورثها حُمى في الأمعاء فلا تزال تشرب ولا تروَى ، أي شاربون من الحميم شرباً لا ينقطع فهو مستمرة آلامه .

وقرأ نافع وعاصم وحمزة وأبو جعفر { شُرب } بضم الشين اسمَ مصدر شرب ، وقرأ الباقون بفتح الشين وهو المصدر لشَرِب .

ورويت عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صححه الحاكم ، وخبر الواحد لا يزيد المتواترَ قُوة فكلتا القراءتين متواتر .

والفاء في قوله : { فشاربون عليه من الحميم } عطف على { لآكلون } لإِفادة تعقيب أكل الزقوم ب { شرب الهيم } دون فترة ولا استراحة .

وإعادة { فشاربون } توكيد لفظي لنظيره ، وفائدة هذا التوكيد زيادة تقرير ما في هذا الشرب من الأعجوبة وهي أنه مع كراهته يزدادون منه كما ترى الأهيم ، فيزيدهم تفظيعاً لأمعائهم لإِفادة التعجيب من حالهم تعجيباً ثانياً بعد الأول ، فإن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة أمر عجيب ، وشربهم له كما تَشرَب الإِبل الهِيم في الإِكثار أمر عجيب أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَشَٰرِبُونَ شُرۡبَ ٱلۡهِيمِ} (55)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وأمَّا الهيم، فإنها جمع أهيم، والأنثى هيماء؛ والهيم: الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء. ومن العرب من يقول: هائم، والأنثى هائمة، ويقال: إن الهيم: الرمل، بمعنى أن أهل النار يشربون الحميم شرب الرمل الماء..

عن عكرِمة، في قوله:"فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ "قال: هي الإبل المِراضى، تَمُصّ الماء مَصًّا ولا تَرْوَى... فلا تزال تشرب حتى تهلك..

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ} فيه أربعة أقاويل:

...

...

...

...

...

...

...

....

الثالث: أن الهيم الإبل الضوال لأنها تهيم في الأرض لا تجد ماءً فإذا وجدته فلا شيء أعظم منها شراباً.

الرابع: أن شرب الهيم هو أن تمد الشرب مرة واحدة إلى أن تتنفس ثلاث مرات...فوصف شربهم الحميم بأنه كشرب الهيم لأنه أكثر شرباً فكان أزيد عذاباً.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{فشاربون شرب الهيم} بيان أيضا لزيادة العذاب أي لا يكون أمركم أمر من شرب ماءا حارا منتنا فيمسك عنه بل يلزمكم أن تشربوا منه مثل ما تشرب الهيم وهي الجمال التي أصابها العطش فتشرب ولا تروى، وهذا البيان في الشرب لزيادة العذاب...

{فمالئون منها} في الأكل، فإن قيل: الأهيم إذا شرب الماء الكثير يضره ولكن في الحال يلتذ به، فهل لأهل الجحيم من شرب الحميم الحار في النار لذة؟ قلنا: لا، وإنما ذلك لبيان زيادة العذاب، ووجهه أن يقال: يلزمون بشرب الحميم ولا يكتفي منهم بذلك الشرب بل يلزمون أن يشربوا كما يشرب الجمل الأهيم الذي به الهيام، أو هم إذا شربوا تزداد حرارة الزقوم في جوفهم فيظنون أنه من الزقوم لا من الحميم فيشربون منه شيئا كثيرا بناء على وهم الري...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وإعادة فعل (شاربون) للتأكيد وتكرير استحضار تلك الصورة الفظيعة. ومعنى {شاربون عليه} يجوز أن يكون (على) فيه للاستعلاء، أي شاربون فوقه الحميم، ويجوز مع ذلك استفادة معنى (مع) من حرف (على) تعجيباً من فظاعة حالهم، أي يشربون هذا الماء المحرق مع ما طعموه من شجر الزقوم الموصوفة في آية أخرى بأنها {يغلي في البطون كغَلي الحميم} [الدخان: 45، 46] فيفيد أنهم يتجرعونه ولا يستطيعون امتناعاً. و {مِن} الداخلة على {شجر} ابتدائية، أي آكلون أكلاً يؤخذ من شجر الزقوم، و {من} الثانية الداخلة على {زقوم} بيانية لأن الشجر هو المسمى بالزقوم.وتأنيث ضمير الشجر في قوله: {فمالئون منها البطون} لأن ضمائر الجمع لغير العاقل تأتي مؤنثة غالباً. وأما ضمير {عليه} فإنما جاء بصيغة المذكر لأنه عائد على الأكل المستفاد من قوله: {لآكلون}، أي على ذلك الأكل بتأويل المصدر باسم المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق.