اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَشَٰرِبُونَ شُرۡبَ ٱلۡهِيمِ} (55)

قوله : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } .

وهذا أيضاً بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكون شربكم كمن شرب ماء حارًّا مُنْتِناً ، فيمسك عنه ، بل يلزمون أن يشربوا منه مثل ما يشرب الأهْيم ، وهو الجمل العطشان ، فيشرب ولا يروى{[54933]} .

وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين من «شُرْب » .

وباقي{[54934]} السبعة بفتحها .

ومجاهد وأبو عثمان{[54935]} النهدي : بكسرها .

فقيل : الثلاث لغات في مصدر » شرِبَ « ، والمقيس منها إنما هو المفتوح ، والمضموم والمكسور اسمان لما يشرب ك «الرَّعْي » و«الطَّحْن » .

قال القرطبي{[54936]} : » تقول العرب : «شَرِبْتُ شُرْباً وشَرْباً وشِرْباً وشُرُباً » بضمتين » .

قال أبو زيد : سمعت العرب تقول : بضم الشِّين وفتحها وكسرها .

والفتح هو المصدر الصحيح ؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله «فَعْل » ؛ ألا ترى أنك تردّه إلى المرة الواحدة ، فتقول : «فَعْلَة » نحو «شَرْبة » .

وقال الكسائي يقال : «شربت شُرْباً وشَرْباً » .

ويروى قول جعفر : «أيَّامُ مِنى أيَّام أكْلٍ وشَرْب » .

ويقال : بفتح الشين ، والشرب في غير هذا اسم للجماعة الشَّاربين{[54937]} .

قال : [ البسيط ]

كأنَّهُ خَارِجاً مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ *** سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عندَ مُفتأدِ{[54938]}

و«الهِيْم » فيه أوجه{[54939]} :

أحدها : أنه جمع «أهْيَم أوْ هَيْمَاء » ، وهو الجمل والنَّاقة التي أصابها الهيام ، وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت ، أو تسقم سقماً شديداً . والأصل : «هُيْم » - بضم «الهاء » - ك «أحْمر وحُمْر ، وحَمرَاء وحُمْر » فقلبت الضمة كسرة لتصح «الياء » ، وذلك نحو «بِيض » في «أبْيَض » .

وأنشد لذي الرّمة : [ الطويل ]

فأصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ ، لا المَاءُ مُبْرِدٌ *** صَداهَا ، ولا يَقْضِي عليْهَا هُيَامُهَا{[54940]}

الثاني : أنَّه جمع «هَائِم وهَائمة » من «الهيام » أيضاً ، إلا أن جمع «فَاعِل وفاعِلَة » على «فُعل » قليل ، نحو : «نَازِل ونُزُل ، وعائذ وعُوذ » .

ومنه : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . عُوذٍ مَطَافِلِ{[54941]}

وقوله : «العوذ المطافيل » .

وقيل : هو من «الهيَام » وهو الذهاب ؛ لأن الجمل إذا أصابه ذلك هَامَ على وجهه .

الثالث : أنه جمع «هَيَام » بفتح الهاء ، وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً ، فيكون مثل «سَحَاب وسُحُب » - بضمتين - ثم خفف بإسكان عينه ثم{[54942]} كسرت فاؤه لتصحّ «الياء » كما فُعِلَ بالذي قبله .

[ الرابع : أنه جمع «هُيَام » - بضم الهاء - وهو الرمل المتماسك ، مبالغة في «الهيام » بالفتح . حكاها ثعلب .

إلا أن المشهور الفتح ، ثم جمع على «فُعُل » نحو : «قَرَاد وقُرُد » ، ثم خفف وكسرت فاؤه ]{[54943]} [ لتصح «الياء » ]{[54944]} .

وفي «الصحاح »{[54945]} : «والهُيَام - بالضَّم - أشدّ العطش ، و«الهيام » كالجنون من العشق ، و«الهَيْمَاء » أيضاً : المفازة لا ماء بها ، و«الهِيَام » - بالكسر - العطاش » .

والمعنى : أنَّهم يصيبهم من الجُوع ما يلجئهم إلى أكل الزَّقُّوم ، ومن العطش ما يضطرهم إلى شُرْب الهيم .

وقال الزمخشري{[54946]} : «فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات واحدة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ .

قلت : ليستا متفقتين من حيث إن كونهم شاربين على ما هو عليه من تناهِي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الماء أمر عجيب أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين » . انتهى .

يعني قوله : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ } .

وهو سؤال حسن ، وجوابه مثله .

وأجاب بعضهم عنه بجواب آخر ، وهو أن قوله : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } تفسير للشرب قبله .

ألا ترى أنَّ ما قبله يصلح أن يكون [ مثل ] {[54947]} شرب الهيم ، ومثل شرب غيرها ، ففسره بأنه مثل شرب هؤلاء البهائم أو الرمال ، وفي ذلك فائدتان{[54948]} :

إحداهما : التنبيه على كثرة شربهم منه .

والثانية : عدم جَدْوى الشرب ، وأن المشروب لا ينجع فيهم كما لا ينجع في الهِيْمِ على التفسيرين .

وقال أبو حيَّان{[54949]} : ««والفاء » تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولاً لما عطشوا شربُوا من الحميم ظنًّا منهم أنه ليسكن عطشهم ، فازدادوا عطشاً بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شرباً لا يقع بعده ريٌّ أبداً ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود : الصفة ، والمشروب منه في { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } محذوف لفهم المعنى ، تقديره : فشاربون منه » انتهى .

قال شهاب الدين{[54950]} : «والظَّاهر أنه شرب واحد ، بل الذي يعتقد هذا فقط ، وكيف يناسب أن يكون زيادتهم العطش بشربة مقتضية لشربهم منه ثانياً » .


[54933]:ينظر: التفسير الكبير 29/152.
[54934]:ينظر: السبعة 623، والحجة 6/260، وإعراب القراءات 2/345، وحجة القراءات 696، والعنوان 185، وشرح شعلة 596، وشرح الطيبة 6/36، وإتحاف 2/516.
[54935]:وحكاها الكسائي لغة. ينظر: إكمال الإعلام لابن مالك 2/330، وإعراب القراءات 2/345، والمحرر الوجيز 5/247، والبحر المحيط 8/209، والدر المصون 6/261.
[54936]:الجامع لأحكام القرآن 17/139.
[54937]:ينظر: الدر المصون 6/261.
[54938]:البيت للنابغة الذبياني ينظر ديوانه ص 19، والأشباه والنظائر 6/243، وخزانة الأدب 3/185، والخصائص 2/275، ورصف المباني ص 211، 295 واللسان (فأد) وابن الشجري 1/156، وشرح الكافية 1/200، والدر المصون 6/261.
[54939]:ينظر: الدر المصون 6/261.
[54940]:ينظر ديوانه 714، والكشاف 4/56، وشرح شواهده ص 542، والدر المصون 6/261.
[54941]:البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه: وإن حديثا منك لو تعلمينه *** جنى النحل في لبان عوذ مطافل ينظر الدرر 5/7، وشرح أشعار الهذليين 1/141، وشرح شواهد الإيضاح ص 587، وشرح شواهد الشافية ص 144، وشافية ابن الحاجب 2/182، وهمع الهوامع 2/46، واللسان (بكر)، و(طفل)، والخصائص 3/123.
[54942]:زاد في ب: ثم خفف و.
[54943]:سقط من ب.
[54944]:سقط من ب.
[54945]:الصحاح 5/2063.
[54946]:الكشاف 4/464.
[54947]:سقط من ب.
[54948]:ينظر: الدر المصون 6/262.
[54949]:البحر المحيط 8/210.
[54950]:الدر المصون 6/262.