قوله : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } .
وهذا أيضاً بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكون شربكم كمن شرب ماء حارًّا مُنْتِناً ، فيمسك عنه ، بل يلزمون أن يشربوا منه مثل ما يشرب الأهْيم ، وهو الجمل العطشان ، فيشرب ولا يروى{[54933]} .
وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين من «شُرْب » .
وباقي{[54934]} السبعة بفتحها .
ومجاهد وأبو عثمان{[54935]} النهدي : بكسرها .
فقيل : الثلاث لغات في مصدر » شرِبَ « ، والمقيس منها إنما هو المفتوح ، والمضموم والمكسور اسمان لما يشرب ك «الرَّعْي » و«الطَّحْن » .
قال القرطبي{[54936]} : » تقول العرب : «شَرِبْتُ شُرْباً وشَرْباً وشِرْباً وشُرُباً » بضمتين » .
قال أبو زيد : سمعت العرب تقول : بضم الشِّين وفتحها وكسرها .
والفتح هو المصدر الصحيح ؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله «فَعْل » ؛ ألا ترى أنك تردّه إلى المرة الواحدة ، فتقول : «فَعْلَة » نحو «شَرْبة » .
وقال الكسائي يقال : «شربت شُرْباً وشَرْباً » .
ويروى قول جعفر : «أيَّامُ مِنى أيَّام أكْلٍ وشَرْب » .
ويقال : بفتح الشين ، والشرب في غير هذا اسم للجماعة الشَّاربين{[54937]} .
كأنَّهُ خَارِجاً مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ *** سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عندَ مُفتأدِ{[54938]}
و«الهِيْم » فيه أوجه{[54939]} :
أحدها : أنه جمع «أهْيَم أوْ هَيْمَاء » ، وهو الجمل والنَّاقة التي أصابها الهيام ، وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت ، أو تسقم سقماً شديداً . والأصل : «هُيْم » - بضم «الهاء » - ك «أحْمر وحُمْر ، وحَمرَاء وحُمْر » فقلبت الضمة كسرة لتصح «الياء » ، وذلك نحو «بِيض » في «أبْيَض » .
فأصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ ، لا المَاءُ مُبْرِدٌ *** صَداهَا ، ولا يَقْضِي عليْهَا هُيَامُهَا{[54940]}
الثاني : أنَّه جمع «هَائِم وهَائمة » من «الهيام » أيضاً ، إلا أن جمع «فَاعِل وفاعِلَة » على «فُعل » قليل ، نحو : «نَازِل ونُزُل ، وعائذ وعُوذ » .
. . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . عُوذٍ مَطَافِلِ{[54941]}
وقيل : هو من «الهيَام » وهو الذهاب ؛ لأن الجمل إذا أصابه ذلك هَامَ على وجهه .
الثالث : أنه جمع «هَيَام » بفتح الهاء ، وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً ، فيكون مثل «سَحَاب وسُحُب » - بضمتين - ثم خفف بإسكان عينه ثم{[54942]} كسرت فاؤه لتصحّ «الياء » كما فُعِلَ بالذي قبله .
[ الرابع : أنه جمع «هُيَام » - بضم الهاء - وهو الرمل المتماسك ، مبالغة في «الهيام » بالفتح . حكاها ثعلب .
إلا أن المشهور الفتح ، ثم جمع على «فُعُل » نحو : «قَرَاد وقُرُد » ، ثم خفف وكسرت فاؤه ]{[54943]} [ لتصح «الياء » ]{[54944]} .
وفي «الصحاح »{[54945]} : «والهُيَام - بالضَّم - أشدّ العطش ، و«الهيام » كالجنون من العشق ، و«الهَيْمَاء » أيضاً : المفازة لا ماء بها ، و«الهِيَام » - بالكسر - العطاش » .
والمعنى : أنَّهم يصيبهم من الجُوع ما يلجئهم إلى أكل الزَّقُّوم ، ومن العطش ما يضطرهم إلى شُرْب الهيم .
وقال الزمخشري{[54946]} : «فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات واحدة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ .
قلت : ليستا متفقتين من حيث إن كونهم شاربين على ما هو عليه من تناهِي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الماء أمر عجيب أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين » . انتهى .
يعني قوله : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ } .
وأجاب بعضهم عنه بجواب آخر ، وهو أن قوله : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } تفسير للشرب قبله .
ألا ترى أنَّ ما قبله يصلح أن يكون [ مثل ] {[54947]} شرب الهيم ، ومثل شرب غيرها ، ففسره بأنه مثل شرب هؤلاء البهائم أو الرمال ، وفي ذلك فائدتان{[54948]} :
إحداهما : التنبيه على كثرة شربهم منه .
والثانية : عدم جَدْوى الشرب ، وأن المشروب لا ينجع فيهم كما لا ينجع في الهِيْمِ على التفسيرين .
وقال أبو حيَّان{[54949]} : ««والفاء » تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولاً لما عطشوا شربُوا من الحميم ظنًّا منهم أنه ليسكن عطشهم ، فازدادوا عطشاً بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شرباً لا يقع بعده ريٌّ أبداً ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود : الصفة ، والمشروب منه في { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } محذوف لفهم المعنى ، تقديره : فشاربون منه » انتهى .
قال شهاب الدين{[54950]} : «والظَّاهر أنه شرب واحد ، بل الذي يعتقد هذا فقط ، وكيف يناسب أن يكون زيادتهم العطش بشربة مقتضية لشربهم منه ثانياً » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.