التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡـٔٗا قَلِيلًا} (74)

يجوز أن يكون هذا كلاماً مستقلاً غير متصل بقوله : { وإن كادوا ليفتنونك } [ الإسراء : 73 ] بناءً على ما نحوناه في تفسير الآية السابقة . وهذه منّة أخرى ومقام آخر من مقام رسول الله تجاه المشركين . ويجوز أن يكون من تكملة ما قبله فيكون الركون إليهم ركوناً فيما سألوه منه على نحو ما ساقه المفسرون من الأخبار المتقدمة .

و ( لولا ) حرف امتناع لوجود ، أي يقتضي امتناعاً لوجود ، أي يقتضي امتناع جوابه لوجود شرطه ، أي بسبب وجود شرطه .

والتثبيت : جعل الشيء ثابتاً ، أي متمكناً من مكانه غير مقلقل ولا مقلوع ، وهو مستعار للبقاء على حاله غير متغير . وتقدم عند قوله تعالى : { وتثبيتاً من أنفسهم } في سورة [ البقرة : 265 ] .

وعدي التثبيت إلى ضمير النبي الدال على ذاته . والمراد تثبيت فهمه ورأيه ، وهذا من الحكم على الذات . والمراد بعض أحوالها بحسب دلالة المقام ، مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] . فالمعنى : ولولا أن ثبتنا رأيك فأقررناه على ما كان عليه في معاملة المشركين لقاربت أن تركن إليهم .

واللام في { لقد كدت تركن إليهم } يجوز أن تكون لام جواب ( لولا ) ، وهي ملازمة لجوابها لتحقيق الربط بينه وبين الشرط .

والمعنى على الوجه الأول في موقع هذه الآية : أن الركون مجمل في أشياء هي مظنة الركون ولكن الركونَ منتف من أصله لأجل التثبيت بالعصمة كما انتفى أن يفتنه المشركون عن الذي أوحي إليه بصرف الله إياهم عن تنفيذ فتنتهم .

والمعنى على الوجه الثاني : ولولا أن عصمناك من الخطأ في الاجتهاد وأريناك أن مصلحة الشدة في الدين والتنويه بأتباعه ، ولو كانوا من ضعفاء أهل الدنيا ، لا تعارضها مصلحة تأليف قلوب المشركين ، ولو كان المسلمون راضين بالغضاضة من أنفسهم استئلافاً للمشركين ، فإن إظهار الهوادة في أمر الدين تُطمع المشركين في الترقي إلى سؤال ما هو أبعد مدى مما سألوه ، فمصلحة ملازمة موقف الحزم معهم أرجح من مصلحة ملاينتهم وموافقتهم ، أي فلا فائدة من ذلك . ولولا ذلك كله لقد كدت تركن إليهم قليلاً ، أي تميل إليهم ، أي توَعدتهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك استناداً لدليل مصلحة مرجوحة واضحة وغفلة عن مصلحة راجحة خفية اغتراراً بخفة بعض ما سألوه في جانب عِظم ما وعدوا به من إيمانهم .

والركون : الميل بالرُكن ، أي بالجانب من الجسد واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب . وتقدم في قوله : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } في سورة [ هود : 113 ] ، كما استعمل ضده في المخالفة في قوله تعالى : { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } في هذه السورة [ الإسراء : 83 ] .

وانتصب { شيئاً } على المفعول المطلق ل { تركن } ، أي شيئاً من الركون . ووجه العدول عن مصدر { تركن } طلب الخفة لأن مصدر { تركن } وهو الركون فيه ثقل فتركه أفصح ، وإنما لم يقتصر على { قليلاً } لأن تنكير { شيئاً } مفيد التقليل ، فكان في ذكره تهيئة لتوكيد معنى التقليل ، فإن كلمة ( شيء ) لتوغلها في إبهام جنس ما تضاف إليه أو جنس الموجود مطلقاً مفيدةٌ للتقليل غالباً كقوله تعالى : { فلا تأخذوا منه شيئاً } [ النساء : 20 ] .

( إذن ) الثانية جَزَاءً ل { كدت تركن } ، ولكونها جزاء فصلت عن العطف إذ لا مقتضى له . فركون النبي صلى الله عليه وسلم إليهم غير واقع ولا مقارب الوقوع لأن الآية قد نفته بأربعة أمور ، وهي : ( لولا ) الامتناعية . وفعل المقاربة المقتضي أنه ما كان يقع الركون ولكن يقع الاقتراب منه ، والتحقير المستفاد من { شيئاً } ، والتقليل المستفاد من { قليلاً } .

أي لولا إفهامنا إياك وجه الحق لخشي أن تقترب من ركون ضعيف قليل ولكن ذلك لم يقع . ودخلت ( قد ) في حيز الامتناع فأصبح تحقيقها معدوماً ، أي لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك .