التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} (24)

كان جواب موسى عليه السلام بياناً لحقيقة ربّ العالمين بما يصيِّر وصفَه بربّ العالمين نصاً لا يحتمل غير ما أراده من ظاهره ، فأتى بشرح اللفظ بما هو تفصيل لمعناه ، إذ قال : { رب السموات والأرض وما بينهما } ، فبذكر السموات والأرض وبعموم ما بينهما حصل بيان حقيقة المسؤول عنه ب { ما } ومرجع هذا البيان إلى أنه تعريف لحقيقة الربّ بخصائصها لأن ذلك غاية ما تصل إليه العقول في معرفة الله أن يُعرَف بآثار خلقه ، فهو تعريف رسمي في الاصطلاح المنطقي .

وانتظم السؤال والجواب على طريقة السؤال بكلمة { ما } عن الجنس . وهو جار على الوجه الأول من وجوه ثلاثة في تقرير السؤال والجواب من كلام « الكشاف » ، وهو أيضاً مختار السكاكي في قانون الطلب من كتاب « المفتاح » ، وطابق الجوابُ السؤالَ تمام المطابقة .

وأشار صاحب « الكشاف » وصرَّح صاحب « المفتاح » بأن جواب موسى بما يبيِّن حقيقةَ { رب العالمين } تضمن تنبيهاً على أن الاستدلال على ثَبات الخالق الواحد يحصل بالنظر في السماوات والأرض وما بينهما نظراً يؤدي إلى العلم بحقيقة الربّ الواحد الممتازة عن حقائق المخلوقات .

ولهذا أتبع بيانه بقوله : { إن كنتم موقنين } ، أي إن كنتم مستعدين للإيقان طالبين لمعرفة الحقائق غير مكابرين . وسُمي العلم بذلك إيقاناً لأن شأن اليقين بأن خالق السموات والأرض وما بينهما هو الإله لا يشاركه غيره .

وضمير الجمع في { كُنتم موقنين } مراد به جميعُ حاضري مجلس فرعون ، أراد موسى تشريكهم في الدعوة تقصياً لكمال الدعوة وأن مؤاخذة القائل لا تقع إلا بعد اتضاح مراده من مقاله إذ لا يؤاخذ بالمجملات . ومن هذا قال سحنون فيمن صدر منه قول أو فعل يستلزم كفراً : إنه يحضر ويوقف على لازم قوله فإن فهمه والتزم ما يلزمه حينئذ يعتبر مرتدّاً ويستتاب ثلاثة أيام بعد ذلك .