مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} (24)

البحث الثاني : وهو أنه قال لموسى عليه السلام : { وما رب العالمين } ؟ واعلم أن السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء ، وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة أو بشيء من أجزائها أو بأمر خارج عنها أو بما يتركب من الداخل والخارج . أما تعريفها بنفسها فمحال ، لأن المعرف معلوم قبل المعرف ، فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوما قبل أن يكون معلوما وهو محال . وأما تعريفها بالأمور الداخلة فيها فههنا في حق واجب الوجود محال ، لأن التعريف بالأمور الداخلة لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبا ، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبا ، لأن كل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه فهو غيره ، فكل مركب محتاج إلى غيره ، وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته ، وكل مركب فهو ممكن ، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركبا ، فواجب الوجود ليس بمركب ، وإذا لم يكن مركبا استحال تعريفه بأجزائه ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود إلا بلوازمه وآثاره ، ثم إن اللوازم قد تكون خفية ، وقد تكون جلية ، ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية بل لابد من تعريفها باللوازم الجلية ، وأظهر آثار ذات واجب الوجود هو هذا العالم المحسوس وهو السماوات والأرض وما بينهما فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون { وما رب العالمين } إلا ما قاله موسى عليه السلام ، وهو أنه رب السماوات والأرض وما بينهما ، فأما قوله : { إن كنتم موقنين } فمعناه : إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ، ثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق ، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره ، وثبت أن تلك الآثار لابد وأن تكون أظهر آثاره ، وأبعدها عن الخفاء وما ذاك إلا السماوات والأرض وما بينهما ، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال إلا هذا الجواب .