قوله : { رُسُلاً } حال من المذكورين ، وقد سمّاهم رسلاً لما قدّمناه ، وهي حال موطّئة لصفتها ، أعني مبشّرين ؛ لأنَّه المقصود من الحال .
وقوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } تعليل لقوله : { مبشرين ومنذرين } ولا يصحّ جعله تعليلاً لقوله : { إنا أوحينا إليك } لأنّ ذلك مسوق لبيان صحّة الرسالة مع الخُلُوّ عن هبوط كتاب من السماء ردّاً على قولهم : { حتّى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] . فموقع قوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } موقع الإدماج تعليماً للأمّة بحكمة من الحكم في بعثته الرسل .
والحجّة ما يدُلّ على صدق المدّعي وحقّيّة المعتذر ، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير . والمراد هنا العذر البيّن الذي يوجب التنصّل من الغضب والعقاب . فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم ، واستحقّوا غضب الله وعقابه . فعلم من هذا أنّ للنّاس قبل إرسال الرسل حجّة إلى الله أن يقولوا : { لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين } [ القصص : 47 ] .
وأشعرت الآية أنّ من أعمال النّاس ما هو بحيث يُغضب الله ويعاقب عليه ، وهي الأفعال التي تدلّ العقول السليمة على قبْحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البيّنة . ووجه الإشعار أنّ الحجّة إنَّما تُقابِل محاولةَ عمل مّا ، فلمّا بعث الله الرسل لقطع الحجّة علمنا أنّ الله حين بعث الرسل كان بصدد أنْ يؤاخذ المبعوث إليهم ، فاقتضت رحمته أن يقطع حجّتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم ، ولذلك جعل قطع الحجّة علّة غائيّة للتبشير والإنذار : إذ التبشير والإنذار إنَّما يبيّنان عواقب الأعمال ، ولذلك لم يعلّل بعثه الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه .
فهذه الآية ملجئة جميعَ الفرق إلى القول بأنّ بعثة الرسل تتوقّف عليها المؤاخذة بالذنوب ، وظاهرها أنّ سائر أنواع المؤاخذة تتوقّف عليها ، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد ، والراجعة إلى العمل ، وفي وجوب معرفة الله . فإرسال الرسل عندنا من تَمَام العدل من الله لأنّه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرّد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذْ لا يسأل عمّا يفعل ، وكانت عدلاً بالمعنى الأعمّ .
فأمّا جمهورُ أهل السنّة ، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري ، فعمّموا وقالوا : لا يثبت شيء من الواجبات ، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلاّ ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى ، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها : مثل { وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] وبالإجماع . وفي دعوى الإجماع نظر ، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر ، وفي الاستدلال بالآيات ، وهي ظواهر ، على أصل من أصول الدين نظر ثالث ، إلاّ أن يقال : إنَّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع ، وهذا أيضاً مجال للنظر ، وهم ملجَئُون إلى تأويل هذه الآية ، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله . والجواب أن يقال : إنّ الرسل في الآية كلٌّ إفْرادِي ، صادق بالرسول الواحد ، وهو يختلف باختلاف الدعوة . فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فَقد تقرّرت بالرسل الأوّلين ، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوبُ الإيمان والتوحيد ، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع ، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة .
وأمّا المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول ؛ فقالوا : إنّ العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام ، وحرمة كثير ، لا سيما معرفة الله تعالى ، لأنّ المعرفة دافعة للضرّ المظنون ، وهو الضرّ الأخروي ، من لحاق العذاب في الآخرة ، حيث أخبر عنه جمع كثير ، وخوف ما يترتَّب على اختلاف الفِرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات ، وهو ضرّ دنيويّ ، وكلّ ما يدفع الضرّ المظنونَ أو المشكوك واجب عقلاً ، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأنّ فيه سَبُعاً ، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقّف ويبحث حتّى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا ، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدّي إلى ثبوت الشرائع .
فلذلك تأوّلوا هذه الآية بما ذكره في « الكشاف » إذ قال : « فإن قلت : كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلّة التي النظر فيها موصّل إلى المعرفة ، والرسلُ في أنفسهم لم يتوصّلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلّة ، أي قبل الرسالة . قلت : الرسل منبِّهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حمّلوه من أمور الدّين وتعليم الشرائع ؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلّة وتتميماً لإلزام الحجّة » . يعني أنّ بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل ، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلاً ، فبعثة الرسل إتمام للحجّة في أصل المؤاخذة ، وإتمام للحجّة في زيادة التزكية أن يقول النّاس : ربّنا لِمَ لَمْ ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصدّيقين وقصرتنا على مجرّد النجاة من العذاب ، حين اهتدينا لأصل التّوحيد بعقولنا .
وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصّة لأنّه رآه مبنَى أصول الدّين ، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في « التوضيح » « أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها ؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إنْ توقّف على الشرع يلزم الدور » وصرّح أيضاً بأنَّها تعرف بالشرع أيضاً .
وقد ضايق المعتزلةُ الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا : لو لم تجب المعرفة إلاّ بالشرع للزم إفحامُ الرسل ، فلم تكن للبعثة فائدة . ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد : انظرْ في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك ، فله أن يقول : لا أنظر ما لم يجب عليّ ، لأنّ ترك غير الواجب جائز ، ولا يجب عليّ حتّى يثبتَ عندي الوجوب بالشرع ، ولا يثبت الشرع ما دمتُ لم أنظر ، لأنّ ثبوت الشرع نَظَريّ لا ضروري . وظَاهَرَهم الماتريديّةُ وبعضُ الشافعيّة على هذا الاستدلال .
ولم أر للأشاعرة جواباً مقنعاً ، سوى أنّ إمام الحرمين في « الإرشاد » أجاب : بأنّ هذا مشترك الإلزام لأنّ وجوب التأمّل في المعجزة نظري لا ضروريّ لا محالة ، فلمن دعاه الرسول أن يقول : لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك عليّ عقلاً ، ولا يجب عليّ عقلاً ما لم أنظر ، لأنّه وجوب نظري ، والنّظري يحتاج إلى ترتيب مقدّمات ، فأنا لا أرتّبها .
وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلّمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتزاني . وقال ابن عرفة في « الشامل » : إنّه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعمّمها بيننا وبينهم ، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة ردٌّ متمكّن . والظاهر أنّ مراد إمام الحرمين أن يُسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحّض الاستدلال بالأدلة الشرعيّة وهو مطلوبنا .
وأنَا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين :
أولهما : بالمنع ، وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقّفاً على الإصغاء إليه ، والنظر في معجزته ، وأنّه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول ، بل ندّعي أنّ ذلك أمر ثبت بالشرائع الّتي تعاقب ورودها بين البشر ، بحيث قد علم كلّ مَن له علاقة بالمدنيَّة البشرية بأنّ دُعاة أتَوا إلى النّاس في عصور مختلفة ، ودعوتهم واحدة : كلّ يقول إنّه مبعوث من عند الله ليدعو النّاس إلى ما يريده الله منهم ، فاستقرّ في نفوس البشر كلّهم أنّ هنالك إيماناً وكفراً ، ونجاة وارتباقاً ، استقراراً لا يجدون في نفوسهم سبيلاً إلى دفعه ، فإذا دعا الرسول النّاس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعوّ السامعِ تلك الأخبار الماضية والمحاورات ، فوجب عليه وجوباً اضطرارياً استماعُه والنظرُ في الأمر المقرّر في نفوس البشر ، ولذلك آخذَ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة . ولذلك فلو قَدّرْنا أحداً لم يخالط جماعات البشر ، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا ، لَما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده . وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي ، ولا عقلي نظري ، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها .
وثاني الجوابين : بالتسليم ، غير أنّ ما وقِر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة ، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة ، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه ، ويتلقّى دعوته وتحدّيهُ ومعجزته ، فلا يشعر إلاّ وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوِّ ، فحرّكت فيه داعية النظر ، فهو ينجَذب إلى تلقّي الدعوة ، رويداً رويداً ، حتّى يجد نفسه قد وعاها وَعَلِمها علماً لا يستطيع بعدَه أن يقول : إنّي لا أنظر المعجزة ، أو لا أصغي إلى الدعوة . فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى ، فكان مؤاخذاً ، فلو قدّرنا أحداً مَرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله ، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطباً ، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحَم الرسولَ لا تتعطّل الرسالة ، ولكنّه خسر هديه ، وسَفِه نفسه .
ولا يَرِد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هارباً حينئذٍ ، لا يتوجّه إليه وجوبُ المعرفة ، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلاّ بعد أن علم أنّه قد تهيَّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى ، وكفى بهذا شعوراً منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذاً على استحبابِه العمى على الهدى ، كما قال تعالى في قوم نوح : { وإنّي كلَّما دعوتُهم- أي إلى الإيمان- لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشَوْا ثيابهم } [ نوح : 7 ] .
والإظهار في مقام الإضمار في قوله : { بعدَ الرسل } دون أن يقال : بعدَهم ، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال .
ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله : { عزيزاً حكيماً } : أمّا بوصف الحكيم فظاهرة ، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليلُ حكمته تعالى ، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّتَه أن يكون غالباً من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة ، لا يُسأل عما يفعل ، وغالب من طريق المعقولِيّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلاّ بعد الأدلّة والبراهين والآيات . وتأخيرُ وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضاً من ضروب الحكمة الباهرة .